الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وإذا وجب عليه الهدي فلم يهد حتى خرجت أيام الذبح : ففيه ثلاث [ ص: 350 ] روايات منصوصات : - إحداهن : عليه هدي متعته ، وهدي آخر لتفريطه ، وهذا اختيار الشريف أبي جعفر ، قال أصحابنا : لتأخيره عن وقت الذبح .

قال - في رواية المروذي - إذا تمتع فلم يهد إلى قابل يهدي هديين هكذا قال ابن عباس ، وإذا صام يوم عرفة ، فإن عليه دمين ، كذلك نقل يعقوب بن بختان .

وقال - في رواية أبي طالب - في متمتع لم يكن معه هدي ولم يصم حتى جاز أيام النحر : صام عشرة إذا رجع وعليه دم قد فرط ، وابن عباس يقول : من كان عليه دم فلم يذبحه حتى جاز يوم النحر : فعليه دمان ؛ دم الذي وجب عليه ، ودم لما فرط ، قيل له : تقول به ؟ قال : نعم عليه دمان ؛ دم لما عليه ، ودم لما أخره . ولا فرق على هذه الرواية بين المعذور وغيره ؛ لأن أحمد اعتمد على حديث ابن عباس وهو في المعذور .

قال القاضي : والمذهب الصحيح أن المعذور وغيره سواء ؛ لأن في رواية المروذي إذا لم يجد ثمنا يشتري به حتى رجع إلى هاهنا عليه هديان وهذه حالة عذر .

[ ص: 351 ] وذلك لما احتج به أحمد من رواية علي بن بذيمة ، عن مولى لابن عباس ، عن ابن عباس فيمن تمتع فلم يصم ولم يهد ، قال : " عليه دمان " . رواه سعيد ورواه النجاد ، ولفظه : عن ابن بذيمة مولى لابن عباس قال : " تمتعت فنسيت أن أنحر وأخرت هديي فمضيت إلى ابن عباس ، فقال : أهد هديين ؛ هديا .. . ، وهديا لما أخرت " .

ولا يعرف له مخالف في الصحابة ؛ ولأن الذبح في وقته نسك واجب فمتى فوت الوقت فقد ترك من نسكه ، ومن ترك شيئا من نسكه : فعليه دم ، وعكسه تأخير الوقوف والطواف إلى وقت يجوز ، فإنه ليس فيه ترك واجب ، ولأنه لو فوت نفس الحج لزمه القضاء والكفارة ، فكذلك إذا فوت بعض واجباته التي يمكن قضاؤها : يجب أن تجب فيه الكفارة إلحاقا لأجزاء العبادة بأصلها ، فإنه من أجلى الأقيسة .

[ ص: 352 ] ولأن ما وقته بنذره إذا فوت وقته : فعليه كفارة ، فما وقته الشرع أحرى أن تجب الكفارة بتفويت وقته . ولا ينتقض هذا بتفويت الصوم والصلاة ؛ لأن ذاك أعظم من أن تجب فيه كفارة .

والرواية الثانية : ليس عليه إلا هدي التمتع فقط ، قال - في رواية ابن منصور - في متمتع لم يذبح حتى رجع إلى أهله - : يبعث بالدم إذا كان ساهيا والعامد : عليه دم واحد إلا أنه قد أساء ، وهذا اختيار ابن أبي موسى وهذا الذي نصره القاضي في خلافه ؛ لأنه نسك أخره إلى وقت جواز فعله ، فلم يجب به دم ، كما لو أخر الوقوف إلى الليل ، والطواف عن أيام منى ، والمعنى بجواز فعله أجزاه ، فأما حل التأخير : فلا ، قال القاضي : ولأنه دم أخره عن وقت وجوبه ، فلا يجب بتأخيره دم كسائر الدماء الواجبات من الحلاق وتقليم الأظفار ، وقتل الصيد ؛ ولأن تأخير العبادة المؤقتة عن وقتها إذا شرع قضاؤها : لا يوجب إلا القضاء بدليل تأخير الصوم والصلاة .

والرواية الثالثة : إن أخره لعذر لم يلزمه إلا هدي واحد ، وإن أخره عمدا فعليه هديان . قال حرب : قيل لأحمد : رجل حج وعليه دم فدفع نفقته إلى رجل وغاب الرجل فلم يكن معه ما يذبح حتى رجع إلى بلاده ؟ قال : يبعث بدم إذا كان له عذر رجوت أن يجزئ عنه دم واحد ، ويروى عن بعضهم أنه قال : عليه دمان ، وهذا إذا لم يكن له عذر ، قيل له : فإن لم يقدر أن يبعث بدم ؟ قال : لا أدري وكأنه أوجبه عليه إذا وجد .

وقال - في رواية حرب - في متمتع رجع إلى بلاده ولم يهد : يجزئ عنه [ ص: 353 ] دم واحد إذا كان له عذر ، وبعضهم يقول : عليه دمان ، وهذا إذا لم يكن له عذر .

قال القاضي : العذر مثل أن تضيق النفقة ولا يجد ما يشتري وقال أبو الخطاب : العذر مثل أن تضيع النفقة ، وذكر ابن عقيل : العذر مثل النسيان ونحوه .

قال ابن أبي موسى : لو سها عن الهدي إلى أن وصل إلى بلده لزمه إنفاذ هدي ينحر بالحرم لا يجزئه غير ذلك .

وهذا لأن العبادات المؤقتة : إذا أخرت عن وقتها تعذر ، وشرع قضاؤها : لم يحتج إلى شيء آخر مثل الصوم إذا أفطر لمرض أو سفر ، والصلاة إذا أخرها لنوم أو نسيان ، بخلاف من أخرها تأخيرا محرما ، فإنه يأثم بذلك فيحتاج إلى كفارة ماحية . والعذر هنا : مثل النسيان ونحوه مما لا يسقط . فأما ضيق النفقة وضياعها ، أو عدم النعم - كما ذكره القاضي وأبو الخطاب - فهذا يمنع وجوب الهدي ، ويجعل فرضه الصوم ، فإذا لم يصم فهي المسألة الآتية وإن صام فليس عليه شيء آخر إلا أن يكون واجدا حين أحرم بالحج فترك الصوم لذلك فلما كان وقت الذبح : ضاعت النفقة ، أو عدمت النعم ، أو كان قد ابتاع هديا فظل : فهنا هو معذور بترك الصوم والذبح .

وبكل حال إذا وجب عليه الهدي ولم يهد سواء كان موسرا ، أو معسرا بعد ذلك ؛ لأن الهدي قد استقر في ذمته .

وأما الصوم ؛ صوم الثلاثة إذا فوته بعد وجوبه ، وفواتها أن لا يصومها قبل النحر في رواية ، وفي رواية : أن لا يصومها إلى أن تنقضي أيام التشريق ، فعن أحمد : أنه يتعين عليه الهدي ولا يجزئه الصوم بحال ، كما تقدم عنه في رواية المروذي : [ ص: 354 ] إذا صام فأفطر يوم عرفة فإن عليه دمين ؛ وكذلك نقل يعقوب بن بختان في المتمتع إذا لم يصم قبل يوم النحر قال : عليه هديان يبعث بهما إلى مكة ، فعلى هذا : إن كان قد فات وقت الذبح - أيضا - : فعليه هديان ويجيء فيهما الروايتان الأخريان . وإن كان وقت الذبح باقيا : فعليه الذبح إن قلنا : المتمتع لا يصوم أيام التشريق ، وإن قلنا : يصومها لم يفت إلا بفوات الذبح . اللهم إلا أن يكون قد بقي يوم من أيام التشريق فإنه يمكن الذبح ، ولا يمكن صوم الثلاثة بحال . وظاهر كلامه أن عليه هديين بكل حال ؛ وذلك لما روي عن سعيد بن المسيب قال : " جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، إني تمتعت فلم أصم الثلاثة الأيام في الحج ، قال : وجب عليك الهدي ، قال : لا أجده ، قال : فسل في قومك ، قال : ما أرى هاهنا أحدا من قومي ، فقال عمر : يا معيقب ، أعطه ثمن شاة " . رواه سعيد عن هشيم ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب عنه .

وعن عكرمة عن ابن عباس قال : " الصوم قبل يوم النحر يقول : فإن لم يصم فعليه الهدي " . رواه سعيد بإسناد صحيح .

وروي عن أصحابه وهم : عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة [ ص: 355 ] نحو ذلك ، وقد حكاه أحمد - أيضا - عن ابن عباس ، ولا يعرف عن الصحابة والتابعين خلاف ذلك إلا قول ابن عمر وعائشة ، ومن وافقهما : أن يصوم أيام منى ، وذلك اتفاق منهم على أنه لا يصومها بعد أيام منى بحال ؛ ولأن الله إنما جوز له الانتقال عن الهدي بأن يصوم ثلاثة أيام في الحج ، فإذا لم يصمها في وقتها : لم يجزه فعلها في غير وقتها كسائر مناسك الحج ، فتعين عليه الهدي ؛ لأن وقته قد يكون باقيا ، ولأنه عبادة مالية من وجه فتأخيرها عن وقتها أقرب ، ولأنه هو الأصل ، ولأن الصوم رخصة فلا يستباح مع المعصية ، ولأنه لو خير بين صوم ثلاثة أيام في الحج وبين الهدي ، وفات وقت الصوم : لتعين الهدي ، فلأن يتعين الهدي إذا كان هو الواجب الأصلي أولى وأحرى ، ولأن العبادة المؤقتة إذا فاتت : فإن قلنا : لا يجوز القضاء إلا بأمر جديد فليس في قضاء صوم المتعة أمر .

وإن قلنا : يقضي فلأن القضاء بدل عن الأداء يسد مسده ، وهنا قد أمكن إبدال الهدي الذي هو أصل الصوم فهو أولى من الاستبدال بصوم ؛ ولأن البدل إذا كان مؤقتا ففات وقته : رجع إلى الأصل ؛ كالمسح على الخفين ، ولأن القضاء بدل عن الأداء فلو شرع في الإبدال لكان للبدل بدل ، وهذا يحتاج إلى دليل فإنه لا يثبت بمجرد الرأي ، ولأن الله أمر بثلاثة أيام في الحج وسبعة بعده ، ووصفها بأنها كاملة ، وهذه الصفة لا تثبت لأيام في غير الحج ؛ لأنها لو ثبتت لها لجاز التأخير ، وإذا لم تكن العشرة كاملة لم يجز عنه ؛ لأن الله إنما أمره بعشرة كاملة ، ولأن صوم الثلاثة في الحج من المناسك - وإن كانت صوما - كما أن ركعتي الطواف من المناسك وإن [ ص: 356 ] كانت صلاة ، ولهذا يصومها المتمتع عن غيره . فإن كل عبادة تختص بالحج فإنها من المناسك ، والمناسك المؤقتة تفوت بفوات وقتها كالوقوف والرمي ونحو ذلك ، ولا يقضي بحال ، وإذا لم تقض : فمنها ما يجب له بدل وهو الدم .

وعن أحمد : أنه يقضيها وهو المعروف عند أصحابنا ؛ لأنه صوم واجب ، فوجب أن يقضى إذا فات كصوم رمضان والمنذور المؤقت ، ولأن الصوم والهدي في التوقيت سواء ، فإذا قضي أحدهما قضي الآخر ، ويقضيها مع صوم السبعة إن شاء متتابعا وإن شاء متفرقا .

وهل عليه دم مع القضاء ؟ على ثلاث روايات ؛ - إحداهن : عليه دم وهي اختيار الشريف أبي جعفر وغيره ، كما تقدم نصه في رواية أبي طالب : إذا لم يكن معه هدي ولم يصم حتى جاز أيام النحر صام عشرة إذا رجع وعليه دم قد فرط .

وقال - في رواية ابن الحكم - إذا وجب عليه الهدي من تمتع ، أو جزاء صيد ، أو كفارة ظهار أو زكاة ففرط فيها حتى ذهب ماله فإن عليه هديين ، وإذا فرط في الصوم وهو متمتع : صام بعدما يرجع إلى أهله وعليه دم ، ويروى عن ابن عباس عليه هديان .

ووجه ذلك : ما تقدم في الهدي . وحكى أبو الخطاب : أن هذه الرواية [ ص: 357 ] خرجها شيخه القاضي أبو يعلى من الرواية التي في تأخير الهدي ، واختار هو : أنه لا يلزمه مع الصوم دم بحال مع ذكر الروايتين في الهدي ؛ لأن الصوم الواجب بأصل الشرع لا يجب بتأخيره عن وقته دم بخلاف الهدي فإنه من المناسك ، وتأخير المناسك في الجملة قد يوجب دما .

والصواب طريقة شيخه ؛ فقد ذكرنا نص أحمد على هذه الرواية ، وقد ذكرها القاضي منصوصة في خلافه ، وكذلك أبو الخطاب في خلافه ، ولعله خرجها في كتبه القديمة ، ثم وجدها منصوصة ، فليس ذلك ببدع من فقهه .

والرواية الثانية : الفرق بين المعذور وغيره كما تقدم عنه في الهدي .

والرواية الثالثة : لا دم بحال قال - في رواية ابن القاسم - إن لم يصم في الحج فليصم إذا انصرف ، ولا يرجع إلى الدم ؛ لأن عليه الصيام ، وذلك لأن الصوم قد وجب في ذمته فلم يجب عليه غير قضائه كصوم رمضان وصوم الكفارات كلها .

فعلى هذا إذا أيسر في أيام الذبح فهل عليه الانتقال ؟ على ما تقدم من الروايتين ، ولو أراد على هذه الرواية أن يهدي ولا يصوم ، فظاهر كلامه أنه لا يجزئ ؛ لأنه قال : عليه الصيام ؛ لأن الذبح قد فات وقته ، ويتخرج جوازه كما قلنا في الكفارات كلها على ظاهر المذهب .

[ ص: 358 ] وأما صوم السبعة فقياس المذهب أنه لا يجوز تأخيره بعد الرجوع إلى الأهل كما لا يجوز تأخير الكفارات ، والنذور ، وأولى ؛ لأن الأمر المطلق يقتضي البدار إلى الفعل ، ولأنه قد قال تعالى : ( إذا رجعتم ) وهذا توقيت له ، فلا يجوز تأخيره عن وقته ؛ لأن إذا ظرف من ظروف الزمان .

وأيضا : فإن قوله : ( إذا رجعتم ) إما أن يكون تقييدا لأول وقت الفعل ، أو لآخره . ولا يجوز أن يكون وقتا لأوله لما تقدم . فعلم أنه وقت لآخره ؛ لأنه لو قال : سبعة بعد ذلك : لظن ظان وجوب تقديمها إلحاقا لها بالثلاثة فقال : ( إذا رجعتم ) بيان لجواز تأخيرها ، ولو أريد بجواز التأخير مطلقا لقيل : وسبعة من أيام أخر ، أو متى شئتم ونحو ذلك .

فإن مات ولم يصم : فقال أحمد - في رواية المروذي - إذا مات ولم يصم السبعة أيام يطعم عنه بمكة موضع وجب عليه .

وهذا يقتضي وجوب الإطعام عنه بكل حال سواء قدر على الصيام ، أو لم يقدر ؛ لأنه أطلق ، وبين أنها وجبت عليه بمكة وهو لا يتمكن من صومها بمكة في الغالب .

وهذا هو الصواب ، وهو قياس مذهبه ؛ لأنه قد تقدم أن الهدي والصوم عنه يجب إما بالإحرام ، أو بالوقوف . ولا معنى لوجوبه إلا وجوب الإخراج عنه إذا مات ، كما قد نص عليه في الهدي ؛ فإنه نص على أنه يخرج عنه إذا مات بعد أن وقف بعرفة . فلو قلنا : لا يجب الصوم إلا بعد التمكن لم يصح الوجوب .

[ ص: 359 ] وقال كثير من أصحابنا ؛ القاضي وابن عقيل وطوائف من أصحابنا : لا يجب أن يطعم عنه إلا إذا تمكن من القضاء كما قلنا في صوم رمضان إذا مات قبل التمكن من قضائه لم يطعم عنه .

والتمكن المعتبر : إما الاستيطان ؛ لأن المسافر لا يجب عليه ، أو الصحة فقط .

فإن قدر على صوم بعض العشرة أطعم عنه بقدر ما قدر عليه .

قال ابن عقيل : ولا يصام عنه قولا واحدا .

وظاهر النص أجود لأن هذا الصوم ليس واجبا بأصل الشرع ، وإنما هو بسبب من المكلف ، فهو كصوم النذر ، وصوم الكفارة ، وكالصوم عن جزاء الصيد ، أو الصوم في فدية الأذى . وهذا لا تعتبر فيه القدرة .

[ ص: 360 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية