الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        فصل في الكفارة قال : ( ومن حلف على معصية مثل أن لا يصلي أو لا يكلم أباه أو ليقتلن فلانا ينبغي أن يحنث نفسه ويكفر عن يمينه ) لقوله عليه الصلاة والسلام : { من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ، ثم ليكفر عن يمينه }ولأن فيما قلنا تفويت البر إلى جابر وهو الكفارة ولا جابر للمعصية في ضده .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        فصل في الكفارة .

                                                                                                        الحديث الخامس : قال عليه السلام : { من حلف على يمين ، ورأى غيرها خيرا منها ، فليأت بالذي هو خير ، ثم ليكفر عن يمينه }; قلت : أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي [ ص: 59 ] هو خير ، وليكفر عن يمينه }انتهى .

                                                                                                        وأخرج البخاري ، ومسلم عن { عبد الرحمن بن سمرة ، قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : يا عبد الرحمن إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ، }انتهى .

                                                                                                        والمصنف استدل بهذا الحديث على استحباب الحنث ، والتكفير لمن حلف على معصية ، ولم أجده بلفظ : ثم ليكفر ، إلا عند الإمام أبي محمد قاسم بن ثابت بن حزم السرقسطي في " كتاب غريب الحديث " ، فقال : أخبرنا أبو العلاء ثنا علي بن معبد ثنا الوليد بن القاسم بن الوليد الهمداني أبو القاسم الكوفي ثنا يزيد بن كيسان أبو إسماعيل عن أبي حازم عن أبي هريرة { أن رجلا أعتم عنده ، فسأل صبيته أمهم الطعام ، فقالت : حتى يجيء أبوكم ، فنام الصبية ، فجاء أبوهم ، فقال : اشتهيت الصبية ; فقالت لا ، كنت أنتظر مجيئك ، فحلف أن لا يطعم ، ثم قال : بعد ذلك : أيقظيهم ، وجيئ بالطعام ، فسمى الله ، وأكل ، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي صنع ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين ، فرأى خيرا منها ، فليأته ، ثم ليكفر عن يمينه }انتهى .

                                                                                                        قال السرقسطي : اشتهيت أي أطعمتهم شهوتهم .

                                                                                                        [ ص: 60 ] فائدة :

                                                                                                        المقصود الأعظم من هذا الحديث الدليل على جواز تقديم الكفارة على الحنث ، وعدم الجواز ، والأول مذهب الشافعي ، والثاني مذهبنا ، واستنباط ذلك من تتبع ألفاظه ، واختلاف رواياته ، فنقول : اعلم أن هذا الحديث روي من حديث أبي هريرة ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وأبي موسى الأشعري ، وعدي بن حاتم ، وروي عن كل منهم في لفظ الحنث قبل الكفارة ، وفي لفظ : الكفارة قبل الحنث ، قاله أبو داود في " سننه " .

                                                                                                        فحديث أبي هريرة :

                                                                                                        أخرجه مسلم : { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه }; وفي لفظ له : فليكفر عن يمينه ، وليأت الذي هو خير .

                                                                                                        وحديث عبد الرحمن :

                                                                                                        أخرجاه أيضا بتقديم الكفارة على الحنث ، وانفرد البخاري بتقديم الحنث على الكفارة .

                                                                                                        وحديث أبي موسى :

                                                                                                        أخرجه البخاري ، ومسلم عن أبي بردة عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ; }وفي لفظ لهما : إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ، ووهم المنذري في " مختصر السنن " فقال : لم يذكره مسلم إلا باللفظ الأول يعني تقديم الكفارة بل ذكره باللفظ الآخر ، ولفظه : إلا أتيت الذي هو خير ، وتحللتها ، [ ص: 61 ] وفي لفظ : فليأتها وليكفر ; وزاد في رواية ، قال : إني والله ما نسيتها .

                                                                                                        وحديث عدي بن حاتم :

                                                                                                        رواه مسلم أيضا باللفظين ، فرواية تقديم الكفارة فيها حجة للشافعي ، لأنه معطوف بالفاء ، والفاء للتعقيب ، وعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أن ذلك يقتضي وجوب تقديم الكفارة على الحنث ، وهم لا يقولون به ; الثاني : أنهم معارضون برواية تقديم الحنث ، ولذلك عقد لها النسائي " باب الكفارة بعد الحنث " .

                                                                                                        وقد تقوى رواية تقديم الكفارة بفعل بعض الصحابة ، أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر ، وسلمان ، وأبي الدرداء كانوا يكفرون قبل الحنث ; وأخرج عن الحسن ، وابن سيرين نحوه الثالث : أنه عقب الجملتين ، والواو بينهما لا تقتضي ترتيبا ، كما قيل ذلك في " آية الوضوء " ، بقي الإشكال في رواية تقديم الكفارة مع العطف بثم ، وهذه الرواية وقعت في ثلاثة أحاديث : أحدها : من رواية عبد الرحمن بن سمرة ، والثاني : من رواية عائشة ، والثالث : من رواية أم سلمة .

                                                                                                        فحديث عبد الرحمن بن سمرة :

                                                                                                        رواه أبو داود ، والنسائي ، قال أبو داود : حدثنا يحيى بن خلف ; وقال النسائي : حدثنا محمد بن يحيى القطيعي ، كلاهما عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة { عن النبي صلى الله عليه وسلم : يا عبد الرحمن إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ، ثم آت الذي هو خير ، }انتهى وهذا سند صحيح .

                                                                                                        وحديث عائشة :

                                                                                                        أخرجه الحاكم في " المستدرك " عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف على يمين لا يحنث ، حتى أنزل الله تعالى كفارة اليمين ، فقال : لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها ، إلا كفرت عن يميني . ثم أتيت الذي هو خير ، }انتهى .

                                                                                                        [ ص: 62 ] وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وهذا في " البخاري " عن عائشة أن أبا بكر كان إذا حلف ، إلى آخره ، بتقديم الحنث ، وعطف الكفارة بالواو .

                                                                                                        وحديث أم سلمة :

                                                                                                        أخرجه الطبراني في " معجمه " عنها { أن عبدا لها استعتقها ، فقالت : لا أعتقها الله من النار إن أعتقته ، فمكثت ما شاء الله ، ثم قالت : سبحان الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من حلف على يمين ، فرأى خيرا منها ، فليكفر عن يمينه ، ثم ليفعل الذي هو خير ، فأعتقت العبد ، ثم كفرت عن يمينها }انتهى .

                                                                                                        وهذا فيه نظر ، لأنها قدمت الحنث ، وينبغي أن يراجع من نسخة أخرى ، وهذه الأحاديث معارضة بحديث تقديم الحنث ، مع العطف بثم ، وقد تقدم ، أو يقال : إن هذه الأحاديث تقتضي وجوب تقديم الكفارة ، وهم لا يقولون به ، والله أعلم ; وعجبت من البخاري كيف ترجم في كتابه " باب الكفارة قبل الحنث " ، فذكر فيها حديث أبي موسى بلفظ : إني لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير .

                                                                                                        وتحللتها ، وحديث عبد الرحمن بن سمرة بلفظ : فأت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ، وكلاهما غير مطابق ، والرواية الأخرى عنده في الحديثين ، فلا يحتاج أن يشير إليها في " الترجمة " .

                                                                                                        فائدة :

                                                                                                        وقع في مسلم عن أبي موسى إني لا أحلف على يمين أرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير ، من غير ذكر الكفارة ، وكذا فيه عن عدي بن حاتم : من حلف على يمين ، ثم رأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، ويحمل ذلك على أحاديث الكفارة ، لكن وقع عند أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا : { ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فليدعها ، وليأت الذي هو خير ، فإن تركها [ ص: 63 ] كفارتها ، }مختصر .

                                                                                                        قال أبو داود : الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها : وليكفر عن يمينه ، إلا ما لا يعبأ به انتهى .

                                                                                                        ورواه البيهقي ، وقال : إنه لم يثبت ، قال : وعن أبي هريرة نحوه ، ولم يثبت أيضا ، انتهى .




                                                                                                        الخدمات العلمية