الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
604 [ ص: 95 ] حديث خامس وثلاثون لزيد بن أسلم - مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني .

التالي السابق


هكذا رواه مالك مرسلا ، وتابعه على إرساله ابن عيينة وإسماعيل بن أمية .

ورواه الثوري عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : حدثني الليث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره .

ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 96 ] فأما رواية ابن عيينة فحدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : رجل اشتراها بماله ، أو رجل أهديت له ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو لغاز في سبيل الله .

وأما رواية إسماعيل بن أمية فرواها ابن علية عن إسماعيل بن أمية عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ حديث مالك حرفا بحرف .

وأما رواية معمر فحدثنا عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن غالب قال : أخبرني أحمد بن عبد الله بن صالح يعني الكوفي قال : حدثني أحمد بن صالح يعني المصري قال : حدثنا عبد الرزاق بن همام بن نافع قال : حدثنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن [ ص: 97 ] يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لعامل عليها ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها لغني .

وحدثنا خلف بن سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا عبد الرزاق ، فذكر بإسناده مثله سواء .

وفي هذا الحديث من الفقه ما يدخل في تفسير قول الله - عز وجل - إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية ، وتفسير لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي ، وقوله هذا عموم مخصوص بقوله في هذا الحديث : إلا لخمسة .

وأجمع العلماء أن الصدقة المفروضة لا تحل لأحد من الأغنياء ، غير من ذكر في هذا الحديث من الخمسة الموصوفين فيه ، وكان ابن القاسم يقول : لا يجوز لغني أن يأخذ من الصدقة ما يستعين به على الجهاد ، وينفقه في سبيل الله ; وإنما يجوز ذلك للفقير ، قال : وكذلك الغارم لا يجوز له أن يأخذ [ ص: 98 ] من الصدقة ما يفي بها ماله ، ويؤدي منها دينه ، وهو عنها غني ، قال وإذا احتاج الغازي في غزوته ، وهو غني له مال غائب عنه لم يأخذ من الصدقة شيئا ، واستقرض فإذا بلغ بلده أدى ذلك من ماله .

هذا كله ذكره ابن حبيب عن ابن القاسم وزعم أن ابن نافع ، وغيره خالفه في ذلك .

وذكر ابن أبي زيد ، وغيره . عن ابن القاسم أنه قال في الزكاة : يعطى منها الغازي ، وإن كان معه في غزاته ما يكفيه من ماله ، وهو غني في بلده .

روى ابن وهب عن مالك أنه يعطى منها الغزاة ، ومن لزم مواضع الرباط فقراء كانوا ، أو أغنياء ، وذكر عيسى بن دينار في تفسير هذا الحديث ، قال : تحل الصدقة لغاز في سبيل الله قد احتاج في غزوته ، وغاب عنه غناه ، ووفره ، قال : ولا تحل لمن كان معه ماله من الغزاة إنما تحل لمن كان ماله غائبا عنه منهم ، قال عيسى : وتحل لعامل عليها ، وهو الذي يجمعها للمساكين من عند أرباب المواشي ، والأموال فهذا يعطى منها على قدر سعيه لا على قدر ما جمع [ ص: 99 ] من الصدقات ، والعشور ، ولا ينظر إلى الثمن ، وليس الثمن بفريضة ; وإنما له قدر اجتهاده ، وعمله ، قال : وتحل لغارم غرما قد فدحه ، وذهب بماله إذا لم يكن غرمه في فساد ، ولا دينه في فساد ، مثل أن يستدين في نكاح ، أو حج ، أو غير ذلك من وجوه الصلاح ، والمباح ، قال : وأما غارم لم يفدحه الغرم ، ولم يحتج ، وقد بقي له من ماله ما يكفيه فإنه لا حق له في الصدقات ، قال : وتحل لرجل اشتراها بماله ، ولرجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى المسكين للغني .

وأما الشافعي ، وأصحابه وأحمد بن حنبل ، وسائر أهل العلم فيما علمت فإنهم ، قالوا : جائز للغازي في سبيل الله إذا ذهبت نفقته ، وماله غائب عنه أن يأخذ من الصدقة ما يبلغه ، قالوا : والمحتمل بحمالة في صلاح وبر ، والمتدائن في غير فساد كلاهما يجوز له أداء دينه من الصدقة ، وإن كان الحميل غنيا فإنه جائز له أخذ الصدقة إذا وجب عليه أداء ما تحمل به ، وكان ذلك يجحف بماله .

واحتج من ذهب إلى هذا الحديث بحديث قبيصة بن المخارق ، وبظاهر حديث زيد بن أسلم هذا .

[ ص: 100 ] فأما حديث قبيصة فحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد بن مسرهد قال : حدثنا حماد بن زيد عن هارون بن رئاب قال : حدثني كنانة بن نعيم عن قبيصة بن المخارق قال : تحملت بحمالة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها فقال : أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها ، ثم قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ، ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو سدادا من عيش ، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه أصابت فلانا الفاقة [ ص: 101 ] فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو سدادا من عيش فما سواهن يا قبيصة من المسألة فسحت .

فقوله : رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ، ثم يمسك " دليل على أنه غني ; لأن الفقير ليس عليه أن يمسك ، عن السؤال مع فقره ، ودليل آخر ، وهو عطفه ذكر الذي ذهب ماله ، وذكر الفقير ذي الفاقة على ذكر صاحب الحمالة فدل على أنه لم يذهب ماله ، ولم تصبه فاقة ، - والله أعلم - .

وأجمع العلماء على أن الصدقة تحل لمن عمل عليها ، وإن كان غنيا ، وكذلك المشتري لها بماله ، والذي تهدى إليه على ما جاء في هذا الحديث ، وكذلك سائر من ذكر فيه ، - والله أعلم - .

وظاهر هذا الخبر يقتضي أن الصدقة تحل لهؤلاء الخمسة في حال غناهم ، ولو لم يجز لهم أخذها إلا مع الحاجة ، والفقر لما كان للاستثناء وجه ; لأن الله قد أباحها للفقراء ، والمساكين إباحة مطلقة ، وحق الاستثناء أن يكون مخرجا من الجملة ما دخل في عمومها هذا هو الوجه ، - والله أعلم - .

[ ص: 102 ] روينا عن عبد الرحمن بن أبي نعم أنه قال : كنت جالسا عند عبد الله بن عمر فجاءته امرأة ، فقالت : يا أبا عبد الرحمن إن زوجي توفي ، وأوصى بمال في سبيل الله ، قال : هو في سبيل الله كما قال : قلت : إنك لم تزدها إلا غما قد سألتك فأخبرها ، فأقبل علي فقال : يا ابن أبي نعم أتأمرني أن آمرها أن تدفعه إلى هذه الجيوش الذين يخرجون فيفسدون في الأرض ، ويقطعون السبيل ، قال : فقلت : فتأمرها بماذا ؟ قال : آمرها أن تنفقه على أهل الخير ، وعلى حجاج بيت الله ، أولئك وفد الرحمن ليسوا كوفد الشيطان يكررها ثلاثا ، قلت : وما وفد الشيطان ؟ قال : قوم يأتون هؤلاء الأمراء فيمشون إليهم بالنميمة ، والكذب فيعطون عليها العطايا ، ويجازون عليها بالجوائز .

[ ص: 103 ] وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن من جاز له أخذ الصدقة ، وحلت له أنه يتصرف فيها ، ويملكها ، ويصنع فيها ما شاء من بيع وهبة ، وغير ذلك مما أحب ، ولذلك ما يطيب أكلها لمن أهديت إليه ، وقد تقدم القول في معنى هدية المسكين من الصدقة للغني في باب ربيعة في قصة لحم بريرة إذ ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو عليها صدقة ، وهو لنا هدية .

حدثنا أحمد بن عمر قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن فطيس قال : حدثنا محمد بن إسحاق بن شبويه السجستي قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فقال : أعندك شيء ؟ فقالت : لا ، إلا رجل شاة تصدق به على امرأة فأهدته لنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قربيه فقد بلغت محلها [ ص: 104 ] ومعنى قوله هذا ، - والله أعلم - أي قد بلغت حالا تحل لنا فيها إذ هي هدية أهداها من يملكها ، وإن كان أصلها صدقة ، فلا تضر ; لأنها ليست بصدقة من المهدى .

ويحتمل أن يكون أراد بلغت موضعها الذي قدر الله أن تؤكل فيه فهو محلها ، وهو من الوجه الأول أنها بلغت حالا حل له فيها أكلها .

ويحتمل أن يكون أراد قد بلغت الحاجة محلها فنحن نأكل الرجل ، وغير الرجل لحاجتنا إلى ذلك - والله أعلم - بما أراد بقوله ذلك .

حدثني محمد بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد بن السباق عن جويرية بنت الحارث ، قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 105 ] ذات يوم فقال : هل عندكن شيء ؟ قلت : لا ، إلا عظم أعطيته مولاة لنا من الصدقة ، قال : قربيه فقد بلغت محلها .

وروى ابن علية عن خالد الحذاء عن حفصة بنت سيرين ، عن أم عطية ، قالت بعث إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة من الصدقة ، فبعثت إلى عائشة منها بشيء فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عائشة ، قال : هل عندكم من شيء ؟ قالت : لا ، إلا أن أم عطية بعثت إلينا من شاتها التي بعثتم بها إليها فقال : إنها قد بلغت محلها . كذا قال ابن علية ، وخالفه أبو شهاب فقال فيه : عن أم عطية ، قالت : بعثت إلى نسيبة الأنصارية بشاة ، وذكره .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أحمد بن عبد الله عن أبي شهاب عن [ ص: 106 ] خالد الحذاء عن حفصة بنت سيرين ، عن أم عطية ، قالت بعثت إلى نسيبة الأنصارية بشاة فأرسلت إلى عائشة منها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل عندكم شيء ؟ فقالت : لا ، إلا ما أرسلت به نسيبة من تلك الشاة ، قال : هات فقد بلغت محلها .




الخدمات العلمية