الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1757 [ ص: 263 ] حديث خامس وأربعون لزيد بن أسلم - مرسل

مالك ، عن زيد بن أسلم أن رجلا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابه جرح فاحتقن الجرح الدم ، وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه فزعم زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهما : أيكما أطب ؟ فقالا : أو في الطب خير يا رسول الله ؟ فزعم زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء .

التالي السابق


هكذا هذا الحديث في الموطأ منقطعا عن زيد بن أسلم عند جماعة رواته فيما علمت . وقد روى عاصم بن عمر ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : ( أيكما أطب ) ؟ .

وأما ( أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء ) فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 264 ] في هذا المعنى بغير هذا اللفظ ، آثار مسندة صحاح سنذكرها في آخر هذا الباب - إن شاء الله - . وفي هذا الحديث إباحة التعالج لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر ذلك عليهم ، وفيه إتيان المتطبب إلى صاحب العلة . وفيه بيان أن الله - عز وجل - هو الممرض ، والشافي ، وأنه لا يكون في ملكه إلا ما شاء ، وأنه أنزل الداء والدواء ، وقدره ، وقضى به . وكذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرقي ، ويقول : اشف أنت الشافي يا رب ، لا شفاء إلا شفاؤك ، اشف شفاء لا يغادر سقما ، وهذا يصحح لك أن المعالجة إنما هي لتطيب نفس العليل ، ويأنس بالعلاج ، ورجاء أن يكون الشفاء كالتسبب لطلب الرزق الذي قد فرغ منه .

وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء دليل على أن البرء ليس في وسع مخلوق أن يعجله قبل أن ينزل ، ويقدر وقته ، وحينه ، وقد رأينا المنتسبين إلى علم الطب يعالج أحدهم رجلين ، وهو يزعم أن علتهما واحدة في زمن واحد ، وسن واحد ، وبلد واحد ، وربما كانا أخوين توأمين غذاؤهما واحد فعالجهما بعلاج واحد فيفيق أحدهما ، ويموت الآخر ، أو تطول علته ، ثم يفيق عند الأمد المقدور له .

[ ص: 265 ] واختلف العلماء في هذا الباب فذهبت منهم طائفة إلى كراهية الرقى ، والمعالجة ، قالوا : الواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصاما بالله - تعالى - ، وتوكلا عليه ، وثقة به ، وانقطاعا إليه ، وعلما بأن الرقية لا تنفعه ، وأن تركها لا يضره إذ قد علم الله أيام المرض ، وأيام الصحة ، فلا تزيد هذه بالرقى ، والعلاجات ، ولا تنقص تلك بترك السعي والاحتيالات ، لكل صنف من ذلك زمن قد علمه الله ، ووقت قد قدره قبل أن يخلق الخلق فلو حرص الخلق على تقليل أيام المرض ، وزمن الداء ، أو على تكثير أيام الصحة ما قدروا على ذلك ، قال الله - عز وجل - : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها .

واحتجوا بما ، حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عرضت علي الأمم ، فذكر الحديث ، وفيه : ويدخل الجنة - أيضا - من أمتك سبعون ألفا بغير حساب ، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يبين لهم ، فأفاض القوم [ ص: 266 ] فقالوا : نحن الذين آمنا بالله ، واتبعنا رسوله فنحن هم ، وأولادنا الذين ولدوا في الإسلام ، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون .

وبه عن أبي بكر ، قال : حدثنا الحسن بن موسى ، قال : حدثنا شيبان ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن ابن مسعود ، قال : تحدثنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : سبعون ألفا يدخلون الجنة لا حساب عليهم ، الذين لا يكتوون ، ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون .

واحتجوا ( - أيضا - ) بحديث سعيد بن أبي سعيد مولى المهري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دخلت أمة بقضها ، وقضيضها الجنة كانوا لا يسترقون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون .

[ ص: 267 ] وبما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا عاصم ، عن زر ، عن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : عرضت علي الأمم في الموسم فرأيت أمتي فأعجبتني كثرتهم ، وهيئتهم قد ملئوا السهل ، والجبل ، قال : يامحمد إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، الذين لا يسترقون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة فقال : يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم : قال : اللهم اجعله منهم ، ثم قام آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : سبقك بها عكاشة .

وروى عمران بن حصين ، عن ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا في حديث طويل ذكره .

قال أبو عمر :

فلهذه الفضيلة ذهب بعض أهل العلم إلى كراهية الرقى والاكتواء . [ ص: 268 ] والآثار بهذا كثيرة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وممن ذهب إلى هذا داود بن علي ، وجماعة من أهل الفقه ، والأثر ، ومن حجتهم - أيضا - قول ابن مسعود ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرني عاصم ابن بهدلة ، عن أبي وائل الأسدي ، عن ابن مسعود أنه قال : إن المرأة إذا حملت تصعدت النطفة تحت كل شعرة ، وبشرة أربعين يوما ، ثم تستقر في الرحم علقة أربعين يوما ، ثم مضغة أربعين يوما ، ثم يبعث الله إليه الملك فيقول : أي رب ذكر أم أنثى ؟ فيأمر الله - عز وجل - بما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول الملك أي رب شقي أم سعيد ؟ فيأمر الله - عز وجل - بما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يكتب رزقه ، وأثره ، وأجله ، وعمله ، وأين يموت ، وأنتم تعلقون التمائم على أبنائكم من العين . وقد روي نحو هذا المعنى مرفوعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه ثابتة كثيرة من حديث ابن مسعود ، وغيره .

وذكر - أيضا - من ذهب إلى هذا المذهب ما أخبرناه عبد الله بن محمد بن يوسف أخبرنا أبو اليسر بشر بن عبد الله [ ص: 269 ] البغدادي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الحسين بن عبد الرحمن القاضي الأنطاكي ، حدثنا حبشي بن عمرو بن الربيع بن طارق ، واسمه طاهر - يعني اسم حبشي - ، قال : حدثني أبي ، قال : أخبرنا السري بن يحيى من أهل البصرة ، عن أبي شجاع ، عن أبي ظبية أن عثمان بن عفان دخل على ابن مسعود في مرضه الذي قبض فيه فقال له عثمان : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي ، قال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي ، قال : ألا أدعو لك الطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني ، قال : ألا نأمر لك بعطائك ؟ قال : حبسته عني في حياتي ، فلا حاجة لي به عند موتي ، قال له عثمان : لكن يكون لبناتك ، قال : أتخشى على بناتي الفاقة ؟ إني لأرجو أن لا تصيبهم فاقة أبدا إني قد أمرت بناتي بقراءة الواقعة كل ليلة فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا . وذكر من ذهب إلى هذا قول أبي الدرداء حين مرض فقيل له : ألا ندعو لك طبيبا ؟ فقال : رآني الطبيب ، قيل له : ما قال لك ؟ قال : إني فعال لما أريد .

[ ص: 270 ] ذكر وكيع ، قال : حدثنا ابن هلال ، عن معاوية بن قرة ، قال : مرض أبو الدرداء فعادوه وقالوا له : ندعو لك الطبيب ؟ فقال : هو أضجعني ، ( وذكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : قيل للربيع بن خيثم في مرض : ألا ندعو لك الطبيب ؟ فقال : أنظروني ، ثم تفكر فقال : إن عادا وثمود ، وأصحاب الرس ، وقرونا بين ذلك كثيرا ) ، فذكر من حرصهم على الدنيا ، ورغبتهم فيها ، وقال : قد كان فيهم المرضى ، وكان منهم الأطباء ، فلا المداوي بقي ولا المداوى ، هلك الناعت والمنعوت له ، والله لا تدعو لي طبيبا . وممن كره الرقى سعيد بن جبير ذكر الحسن بن علي الحلواني ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو شهاب ، قال : دخلت على سعيد بن جبير ، وهو نازل بالمروة ، وكانت تأخذه شقيقة بصداع فقال له رجل : ألا آتيك بمن يرقيك من الصداع ؟ فقال : لا حاجة لي بالرقى .

وروى سنيد ، عن هشيم ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير أنه كان عنده يوما فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض [ ص: 271 ] البارحة ؟ فقال أبو حصين : أما إني لم أكن في صلاة ، وذلك أني لدغتني عقرب ، قال : فكيف صنعت ؟ قلت استرقيت ، قال : وما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثني الشعبي ، عن بريدة الأسلمي أنه قال : لا رقية إلا من عين ، أو حمة فقال سعيد بن جبير ، وذا حسن ، من انتهى إلى ما سمع فقد أحسن ; لكن ابن عباس حدثني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا لا حساب عليهم ، ولا عذاب ، وهم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون مختصر .

وذكر أبو بكر ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن أنه كان يكره شرب الأدوية كلها إلا اللبن والعسل .

ومن حجة من ذهب إلى كراهية ذلك - أيضا - ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال : حدثنا علي ابن المديني ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك ، قال : حدثنا المبارك بن فضالة ، قال : حدثنا الحسن ، عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في عضده حلقة فقال : ما هذه ؟ قال : من الواهنة فقال : ما تزيدك إلا وهنا [ ص: 272 ] انبذها عنك فإنك إن مت ، وهي عليك ، وكلت إليها .

وما حدثنا عبد الوارث - أيضا - ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا الحسن بن سلام ، قال : حدثنا زهير بن حرب ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : حدثنا العقار بن المغيرة بن شعبة ، عن أبيه حديثا فلم أحفظه ، فمكثت بعد ذلك فأمرت حسان بن أبي وجرة أن يسأله فأخبرني أنه سأله فقال : سمعت أبي يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما توكل من استرقى ، أو اكتوى .

وبحديث عبد الله بن عمرو ، سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما أبالي ما أتيت ، أو ما ارتكبت إن أنا شربت ترياقا ، أو تعلقت تميمة ، أو قلت الشعر من قبل نفسي ، وعن الحسن ، قال : سألت أنسا عن النشرة ؟ [ ص: 273 ] فقال : ذكروا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من الشيطان . وهذه كلها آثار لينة ، ولها وجوه محتملة ، وعن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكي . فهذا أكثر ما نزع به الكارهون للرقى والتداوي والمعالجة ، وذكر الأثرم ، قال : سألت أحمد بن حنبل عن الكي ؟ فقال : ما أدري ، وكأنه كرهه ، وذكر حديث عمران بن حصين نهينا عن الكي ، قال : وسمعته يكره الحقنة إلا أن تكون ضرورة لا بد منها .

وذهب آخرون من العلماء إلى إباحة الاسترقاء ، والمعالجة ، والتداوي ، وقالوا إن من سنة المسلمين التي يجب عليهم لزومها لروايتهم لها عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - الفزع إلى الله عند الأمر يعرض لهم ، وعند نزول البلاء بهم في التعوذ بالله من كل شر ، وإلى الاسترقاء ، وقراءة القرآن ، والذكر والدعاء .

واحتجوا بالآثار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إباحة التداوي والاسترقاء ، منها قوله : تداووا عباد الله ، ولا تداووا بحرام فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء .

[ ص: 274 ] وبقوله - عليه السلام - الشفاء في ثلاثة : في شربة عسل ، أو شرطة محجم ، أو كية نار ، وما أحب أن أكتوي . وبحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة . ومن حديث سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خير ما يتداوى به الحجامة . ومن حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم ، واستعط ، وأعطى الحجام أجره . وروي عنه أنه قال : إن كان دواء يبلغ الداء فالحجامة تبلغه . وقال - عليه السلام - : ما خلق الله داء إلا خلق له دواء إلا الموت والهرم ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام يعني الموت رواه ابن شهاب ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين ، ورقى رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 275 ] وسلم - نفسه ، ورقى أصحابه ، وأمرهم بالرقية ، وأباح الأكل بالرقية ، وكان يعوذ الحسن ، والحسين ، ويسترقي لهما ، وكذلك جاء عنه في ابني جعفر ، وأمر عامر بن ربيعة بالاغتسال لسهيل بن حنيف من العين ، وكان يقول : من قال : أعوذ بعزة الله وقدرته كشف عنه كذا ، ومن قال : أعوذ بكلمات الله التامات لم يضره شيء ، ونحو هذا من الحديث ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسماء بنت عميس : بم كنت تستمشين ؟ قالت بالشبرم ، قال : حار جار ، قالت : ثم استمشيت بالسنا فقال - صلى الله عليه وسلم - : لو كان شيء يشفي من الموت كان السنا ، وأجاز - صلى الله عليه وسلم - اللدود والسعوط والمشي والحجامة والعلق ، وقال إبراهيم النخعي : كانوا لا يرون بالاستشفاء بأسا ; وإنما كرهوا منه ما كرهوا مخافة أن يضعفهم ، وقال عطاء : لا بأس أن يستشفي المجذوم وغير المجذوم ، وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له أرأيت أدوية نتداوى بها ، ورقى [ ص: 276 ] نسترقي بها ؟ أترد من قدر الله ؟ فقال : هي من قدر الله ، وقال : في عجوة العالية شفاء إذا بكره على الريق ، وقال : من تصبح سبع تمرات من عجوة من تمر العالية لم يضره ذلك اليوم سم ، ولا سحر . وكوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسعد بن زرارة ، وروي أنه قطع من أبي بن كعب عرقا ، وكواه ، وهو حديث غريب رواه أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، وذكر الأثرم ، قال : سألت أحمد بن حنبل عن قطع العرق ؟ فقال : لا بأس بذلك ، عمران بن حصين قطع عرقا ، وأسيد بن حضير قطع عرق النسا ، وأبي بن كعب قطع عرقا ، فيما قال أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر .

[ ص: 277 ] وذكر ابن وهب ، قال : حدثني عمرو بن محمد ، وعبد الله بن عمرو ، ومالك بن أنس ، ويونس بن يزيد أن نافعا أخبرهم أن عبد الله بن عمر اكتوى من اللقوة ، ورقي من العقرب ، قال : وحدثني عمرو بن الحارث ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا دعا طبيبا يعالج أهله اشترط عليه أن لا يداوي بشيء مما حرم الله .

واكتوى ابن عمر ، وغيره من السلف :

( حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى ، حدثنا محمد بن أيوب الرقي ، حدثنا أحمد بن عمرو البزار ، حدثنا مهنأ بن يحيى ، قال : حدثنا بقية ، قال : حدثنا شعبة ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين أن ابن عمر كان يسقي ولده الترياق ، وقال مالك : لا بأس بذلك ) .

قال أبو عمر :

وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : خير أكحالكم الإثمد يجلو البصر ، وينبت الشعر [ ص: 278 ] واكتوى ابن عمر ، وغيره من السلف ، فمن زعم أنه لا معنى للرقى ، والاستعاذة ، ومنع من التداوي ، والمعالجة ، ونحو ذلك مما يلتمس به العافية من الله فقد خرج من عرف المسلمين ، وخالف طريقهم ، قالوا : ولو كان الأمر كما ذهب إليه من كره التداوي ، والرقى ما قطع الناس أيديهم وأرجلهم ، وغير ذلك من أعضائهم للعلاج ، وما افتصدوا ، ولا احتجموا ، وهذا عروة بن الزبير قد قطع ساقه ، قالوا : وقد يحتمل أن يكون قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يسترقون ، ولا يكتوون أن يكون قصد إلى نوع من الكي مكروه منهي عنه ، أو يكون قصد إلى الرقى بما ليس في كتاب الله ، ولا من ذكره ، وقد جاء عن أبي بكر الصديق كراهية الرقية بغير كتاب الله ، وعلى ذلك العلماء ، وأباح لليهودية أن ترقي عائشة بكتاب الله .

قال أبو عمر :

هذا كله قد نزع به ، أو ببعضه من قصد إلى الرد على القول الأول ، والذي أقول به أنه قد كان من خيار هذه الأمة [ ص: 279 ] وسلفها وعلمائها ، قوم يصبرون على الأمراض حتى يكشفها الله ، ومعهم الأطباء فلم يعابوا بترك المعالجة ، ولو كانت المعالجة سنة من السنن الواجبة لكان الذم قد لحق من ترك الاسترقاء ، والتداوي ، وهذا لا نعلم أحدا قاله ، ولكان أهل البادية ، والمواضع النائية عن الأطباء قد دخل عليهم النقص في دينهم لتركهم ذلك ; وإنما التداوي ، - والله أعلم - إباحة على ما قدمنا لميل النفوس إليه ، وسكونها نحوه ولكل أجل كتاب لا أنه سنة ، ولا أنه واجب ، ولا أن العلم بذلك علم موثوق به لا يخالف بل هو خطر ، وتجربة موقوفة على القدر ، والله نسأله العصمة والتوفيق . وعلى إباحة التداوي والاسترقاء جمهور العلماء ، أخبرنا محمد بن عبد الملك ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي ، قال : حدثنا سعدان بن نصر ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهدي ، أو عن أبي قلابة ، قال : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر قدم والثمرة خضرة ، قال : فأسرع الناس فيها فحموا فشكوا ذلك إليه ، فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان ، ثم يحدرون عليهم بين أذان الفجر ، ويذكروا اسم الله - عز وجل - ، قال : ففعلوا [ ص: 280 ] فكأنما نشطوا من عقال : أو قال : من عقل . وقد رخصوا أن يداوي الرجال عند الاضطرار النساء على سبيل السترة ، والاحتياط ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد ، قال : حدثنا الخضر بن داود ، قال : حدثنا أبو بكر الأثرم ، قال : سألت أحمد بن حنبل ، أو سئل وأنا أسمع عن المرأة يداويها الرجل في مثل الكسر وشبهه ؟ قال : نعم ، قد رخص في ذلك عدة من التابعين .

قال أبو بكر : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن امرأة منا في رأسها سلعة لا يستطيع النساء أن يداوينها ، قال : يخرق في خمارها قدر السلعة ، ثم يداويها الرجال . قال : وحدثنا أبو جعفر النفيلي ، قال : حدثنا مسكين بن بكر ، عن شعبة ، عن يونس بن عبيد ، عن هشام بن عروة ، قال : خرج في عنق أختي خراج فدعا عروة الطبيب فأمره أن يقور الموضع ، ثم يعالجها ، قال : وحدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا ثابت بن ذروة ، قال : سألت جابر بن زيد عن المرأة ينكسر منها العضو أجبره ؟ قال : نعم . قال : وحدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا قتادة ، عن جابر بن زيد في المرأة ينكسر فخذها فلا يجدون [ ص: 281 ] امرأة تجبرها فقال : يجبرها رجل ، ويسترها . قال : وأخبرنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخر عن امرأته فيلتمس من يداويه ، قال : إنما نهى الله عما يضر ، ولم ينه عما ينفع .

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا علي بن محمد ، حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عقبة بن نافع ، عن ربيعة أنه قال : لا بأس أن يعالج المريض بلبن الشاة السوداء ، والبقرة السوداء ، ولبن المرأة أول بطن ، لا نرى بذلك كله بأسا . وقال زيد بن البشير : سمن البقرة السوداء التي لا بياض فيها يجلو البصر .

وأما الآثار التي رويت مسندة في معنى حديث زيد بن أسلم هذا فحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن علي ، قال : حدثنا علي بن حرب الطائي .

وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا حامد بن يحيى ، قالا جميعا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن زياد بن علاقة ، قال : سمعت أسامة بن شريك ، قال : شهدت الأعاريب يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل علينا جناح في كذا وكذا ؟ فقال : عباد الله قد وضع الحرج إلا امرأ اقترض من عرض أخيه شيئا فذلك الذي حرج ، وهلك ، قالوا : يا رسول الله [ ص: 282 ] هل علينا حرج أن نتداوى ؟ فقال : تداووا عباد الله فإن الله لم ينزل داء إلا وقد أنزل له دواء ، وقال مرة : شفاء إلا الهرم ، قالوا : فما خير ما أعطي الرجل يا رسول الله ؟ قال : خلق حسن . ورواه شعبة ، وزهير بن معاوية ، وزيد بن أبي أنيسة ، عن زياد بن علاقة ، عن أسامة بن شريك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء .

وحدثني خلف بن القاسم ، قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم بن الحداد ، قال : حدثنا سليمان بن حذلم الدمشقي ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، قال : حدثنا ثعلبة بن مسلم الخثعمي ، عن أبي عمران الأنصاري ، عن أبي الدرداء ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله - عز وجل - خلق الداء ، وخلق الدواء فتداووا ، ولا تداووا بحرام . وحدثنا عبد الوارث بن سفيان إملاء ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ إملاء ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز إملاء في المسجد الحرام ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثني شبيب بن شيبة [ ص: 283 ] قال : سمعت عطاء يحدث في المسجد الحرام ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما أنزل الله من داء إلا أنزل معه دواء علمه من علمه وجهله من جهله إلا السام قيل : يا رسول الله ، وما السام ؟ قال : الموت .

قال أبو عمر :

هكذا روى هذا الحديث شبيب بن شيبة ، عن عطاء ، عن أبي سعيد ، وخالفه عمر بن أبي حسين فرواه عن عطاء ، عن أبي هريرة : حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد ، قال : حدثنا وهب بن مسرة ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين ، قال : حدثنا عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء . ورواه طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس [ ص: 284 ] وقد يحتمل أن يكون عند عطاء عنهم : أخبرني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا طلحة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أيها الناس تداووا فإن الله لم يخلق داء إلا خلق له شفاء إلا السام ، والسام الموت .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الهيثم أبو الأحوص ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثني ابن وهب ، قال : أخبرني ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء ، أو شفاء الشك من أبي الأحوص إذا أصيب الدواء الذي هو شفاء الداء .

وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا يونس بن محمد ، قال : حدثنا حرب بن ميمون ، قال : سمعت عمران العمي ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : [ ص: 285 ] إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله - عز وجل - حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ، حدثنا المقرئ ، حدثنا المسعودي ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله لم ينزل داء إلا وقد وضع له شفاء إلا الهرم فعليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر .

وحدثنا سعيد ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، قال : دخلت على أبي عبد الرحمن السلمي أعوده ، فأراد غلام له أن يداويه فنهيته فقال : دعه فإني سمعت عبد الله بن مسعود يخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء ، وربما قال سفيان : شفاء علمه من علمه وجهله من [ ص: 286 ] جهله . ( رواه وكيع ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن ابن مسعود موقوفا من قوله ) ، والله الموفق للصواب .




الخدمات العلمية