الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1562 [ ص: 321 ] حديث موفى خمسين لزيد بن أسلم - مرسل

مالك ، عن زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوط فأتي بسوط مكسور فقال : فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال : دون هذا فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلد ، ثم قال : أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله ، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله .

التالي السابق


هكذا روى هذا الحديث مرسلا جماعة الرواة للموطأ ، ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ من وجه من الوجوه ، وقد روى [ ص: 322 ] معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء .

وذكر ابن وهب في موطئه عن مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، قال : سمعت عبيد الله بن مقسم يقول : سمعت كريبا مولى ابن عباس يحدث ، أو يحدث عنه أنه قال : أتى رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعترف على نفسه بالزنا ، ولم يكن الرجل أحصن فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوطا فوجد رأسه شديدا فرده ، ثم أخذ سوطا آخر فوجد رأسه لينا فأمر رجلا من القوم فجلده مائة جلدة ، ثم قام على المنبر فقال : أيها الناس اتقوا الله ، واستتروا بستر الله ، وقال : انظروا ما كره الله لكم أو قال : احذروا ما حذركم الله من الأعمال فاجتنبوه فإنه ما نؤتى به من امرئ . قال ابن وهب : معناه نقيم عليه كتاب الله .

وقد ذكرنا الآثار المسندة في الاعتراف بالزنا التي جاءت في معنى هذا الحديث في باب مراسيل ابن شهاب من كتابنا هذا .

[ ص: 323 ] وأما قوله فيه : بسوط لم تقطع ثمرته فإنه أراد لم يمتهن ، ولم يلن ، والثمرة الطرف ، وإذا ركب كثيرا بالسوط ذهب طرفه تقول العرب : ثمرة السوط ، وذباب السيف ، قال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير :


ما زال عصياننا لله يسلمنا حتى دفعنا إلى يحيى ودينار عليجين لم تقطع ثمارهما
قد طالما سجدا للشمس والنار



ثمارهما يعني القلفلة ، وكذلك قال صاحب العين .

وفي هذا الحديث من الفقه أن من اعترف بالزنا مرة واحدة لزمه الحد إذا كان بالغا عاقلا مميزا ، ولم ينصرف عن إقراره ذلك ، ولا رجع عنه ، وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، وبه قال عثمان البتي ، وإليه ذهب أبو جعفر الطبري ، ومن حجتهم أن هذا الحديث ليس فيه أكثر من ذكر اعترافه ، والاعتراف إذا أطلق فإنه يلزم كل ما وقع عليه اسم اعتراف ، مرة كان ، أو أكثر من ذلك ، ولا وجه لقول من قال : إن الاعتراف كالشهادة ، وإنه لا يلزم فيه أقل من أربع [ ص: 324 ] مرات في الزنا ، وفي السرقة مرتين لإجماعهم على أنه يلزم في غير الحدود الإقرار مرة واحدة ، وسنذكر اختلافهم في هذه المسألة في باب مراسيل ابن شهاب - إن شاء الله تعالى - .

وفي هذا الحديث - أيضا - أن الحد على الزاني الجلد بالسوط ، وذلك إذا كان بكرا لم يحصن ، عند جماعة فقهاء الأمصار ، وعلماء المسلمين .

ومعنى قول الله - عز وجل - الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة معناه الأبكار دون من قد أحصن ; وأما المحصن فجلده الرجم إلا عند الخوارج ، ولا يعدهم العلماء خلافا لجهلهم ، وخروجهم عن جماعة المسلمين ، وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحصنين فممن رجم : ماعز الأسلمي ، والغامدية [ ص: 325 ] والجهنية والتي بعث إليها أنيسا . ورجم عمر بن الخطاب سخيلة بالمدينة ، ورجم بالشام ، وقصة الحبلى التي أراد رجمها فقال له معاذ بن جبل : ليس لك ذلك للذي في بطنها فإنه ليس لك عليه سبيل . وعرض مثل ذلك لعثمان بن عفان مع علي في المجنونة الحبلى ، ورجم علي شراحة الهمدانية ، ورجم - أيضا - في مسيره إلى صفين رجلا أتاه مقرا بالزنا ، وهذا كله مشهور عند العلماء إلا أنهم اختلفوا في جلد المحصن مع الرجم فقالت : فرقة يجلد ، ويرجم ، وقال الجمهور : يرجم ولا جلد عليه ، وسنذكر ذلك في حديث ابن [ ص: 326 ] شهاب ، عن عبيد الله عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : لأنيس الأسلمي وائت المرأة فإن اعترفت فارجمها من كتابنا هذا - إن شاء الله - .

وفي هذا الحديث من الفقه - أيضا - أن الاعتراف بما يوجب الحد يقوم مقام الشهادة على ما ذكرنا ، وهذا ما لا خلاف فيه إلا ما قدمنا ذكره من العدد في الإقرار .

واختلف الفقهاء في رجوع المقر بالحد بعد إقراره قبل أن يقام عليه الحد فقال مالك : يقبل رجوعه عن الإقرار بالزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، ويغرم للمسروق منه ما سرق إن ادعاه ، وهو قول الثوري ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، والحسن بن حي .

وقد روي عن مالك أنه إذا ضرب أكثر الحد ، ثم انصرف أتم عليه ، وروى أبو يوسف ، عن ابن أبي ليلى أنه لا يقبل رجوعه ، وروى عنه الليث أنه يقبل ، وقال عثمان البتي : لا يقبل رجوعه ، وقال الأوزاعي في رجل اعترف على نفسه بالزنا أربع مرات ، وهو محصن ، ثم ندم ، وأنكر أن يكون أتى ذلك ، أنه يضرب حد الفرية على نفسه فإن اعترف بسرقة ، أو شرب خمر ، أو قتل ، ثم أنكر عاقبه السلطان دون الحد .

[ ص: 327 ] قال أبو عمر :

الصحيح أنه لا يجلد إذا رجع عن إقراره ; لأنه محال أن يقام عليه حد ، وهو منكر له بغير بينة ، ألا ترى أن الشهود لو رجعوا عن شهادتهم قبل إقامة الحد عليه لم يقم ، وكذلك لا يتم عليه إذا ابتدئ به ; لأنه كل جلدة قائمة بنفسها ; فغير جائز أن يقام عليه شيء منها بعد رجوعه كرجوع الشهود سواء ، وليس الإقرار بحد الله ، وحق لا يطالب به آدمي كالإقرار بالمال للآدميين ; لأن الإقرار بالحد توبة لم تعرف إلا من قبله فإن نزع عنها كان كمن لم يأت بها ، والكلام في هذا واضح ، وبالله التوفيق .

وفي هذا الحديث - أيضا - من الفقه أن الحدود لا تقام إلا بسوط قد لان . وأما قوله : لم تقطع ثمرته فهذا من الاستعارة أراد أنه لم يمتهن ، وقوله قد ركب به يعني نالته المهنة ، ولينته ، واختلف الفقهاء في أشد الحدود ضربا فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد الضرب في الحدود كلها سواء : [ ص: 328 ] ضرب غير مبرح ضرب بين ضربين . وقال أبو حنيفة وأصحابه : التعزير أشد الضرب وضرب الزنا أشد من الضرب في الخمر وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف ، وقال الثوري : ضرب الزنا أشد من ضرب القذف وضرب القذف أشد من ضرب الشرب ، وقال الحسن بن حي : ضرب الزنا أشد من ضرب الشرب ، والقذف ، وعن الحسن البصري مثله ، وزاد ضرب الشارب أشد من ضرب التعزير ، وقال عطاء بن أبي رباح : حد الزنا أشد من حد الفرية ، وحد الفرية والخمر واحد .

واحتج من جعل الضرب في الحدود كلها واحدا سواء بورود التوقيف فيها على عدد الجلدات ، ولم يرد في شيء منها تخفيف ، ولا تثقيل عمن يجب التسليم له فوجبت التسوية في ذلك ; لأن مثل هذا لا يؤخذ قياسا ; وإنما هي عقوبات ورد فيها توقيف عدد دون كيفية شدة وتخفيف في نوع الضرب فالوجه فيها التسوية ; لأن من فرق احتاج إلى دليل ، ولا دليل معه في ذلك إلا التحكم .

ومن حجة من قال : إن الزنا أشد ضربا من القذف ، والقذف أشد من الخمر ; لأن الزنا أكثر عددا في الجلدات فاستحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية ; لأن الله قد قصر [ ص: 329 ] بالعدد فيه عن عدد الزنا ، وكذلك الخمر لم يثبت فيه حد إلا بالاجتهاد ، وسبيل مسائل الاجتهاد أن لا تقوى قوة مسائل التوقيف .

ومن حجة من لم يبلغ بالتعزير الحد في العدد ، ولا في الإيجاع عدم النص فيه ، وإن عرض المسلم ، ودمه محظوران محرمان ( لا يحلان ) إلا بيقين لا شك فيه مع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله . رواه أبو بردة الأنصاري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث بكير بن الأشج وعثمان ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن أبي بردة الأنصاري .

وذكر عبد الرزاق ، عن قيس بن ربيع ، قال : حدثني أبو حصين ، عن حبيب بن صهبان ، قال : سمعت عمر يقول : ظهور المسلمين حمى الله لا يحل لأحد أن يجرحها إلا في حد ، قال : ولقد رأيته يقيد من نفسه .

[ ص: 330 ] وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن إسماعيل بن أيوب ، عن أبيه ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أنه قال : لا يبلغ بالعقوبة الحدود ، وعن ابن جريج - أيضا - عن عمر بن عبد العزيز نحوه .

واحتج من رأى التعزير أشد الحدود ضربا بما حدثني محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا أحمد بن مطرف ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن جامع بن أبي راشد ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسدي ، قال : كان رجل له على أم سلمة دين فكتب إليها كتابا يحرج عليها فأمر به عمر بن الخطاب أن يجلد ثلاثين جلدة كلها تبضع اللحم ، وتحدر الدم ، قال سفيان : لأنها أمه ، ولا ينبغي للرجل أن يضيق على أمه ، ونحو هذا .

وبما رواه شعبة ، عن واصل ، عن المعرور بن سويد ، قال : أتي عمر بن الخطاب بامرأة زنت فقال : أفسدت [ ص: 331 ] حسبها اضربوها حدها ، ولا تخرقوا عليها جلدها . قال : فهذان الحديثان يدلان على أن عمر - رضي الله عنه - كان يرى الضرب في التعزير أشد منه في الزنا ، قالوا : وكذلك لا محالة سائر الحدود .

قال أبو عمر :

من قال : إن الحدود كلها سواء ، إلا في العدد جعل قوله : ولا تأخذكم بهما رأفة في إسقاط الحد لا في صفة الضرب ، وضرب الزنا أخف عندهم ; فإنهم يقولون : ضربا غير مبرح لا يشق جلدا ، ولا سوطا فوق سوط ) . واحتج من قال : ضرب القذف أشد الضرب بما أخبرني به أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عمر ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، قال : لما جلد أبو بكرة أمرت جدتي أم كلثوم بنت عقبة بشاة فسلخت ، ثم ألبس مسكها ، قال : فهل ذلك إلا من ضرب شديد ؟

[ ص: 332 ] ( هكذا قالت جدتي ; وإنما هي أم إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف جدة سعد بن إبراهيم : حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان ، حدثنا الحسين بن محمد بن الضحاك ، حدثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني ، حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : لما جلد أبو بكرة أمرت أمه بشاة فذبحتها ، ثم جعلت جلدها على ظهره ، وما ذاك إلا من ضرب شديد ) ، وكان أبي يرى أن ضرب القذف شديد .

وعن علي بن أبي طالب ، أنه قال لقنبر في العبد الذي أقر عنده بالزنا : اضربه كذا وكذا ، ولا تنهك .

قال أبو عمر :

فيما روي عن عمر ، وعلي - رضي الله عنهما - في هذا الباب من صفة ضرب الزاني دليل على أن قوله : - عز وجل - ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله الآية إنما أريد به أن لا تعطل الحدود ، وأن لا يأخذ الحكام رأفة على الزناة فيعطلوا حدود الله ، ولا يحدوهم ، وهذا قول جماعة أهل التفسير ، وممن قال ذلك الحسن ، ومجاهد ، وعطاء [ ص: 333 ] وعكرمة ، وزيد بن أسلم ، وقال الشعبي ، والنخعي ، وسعيد بن جبير : ولا تأخذكم بهما رأفة ، قالوا : في الضرب ، والجلد .

وذكر إسماعيل القاضي ، قال : حدثنا محمد بن أبي بكر ، قال : حدثنا موسى بن داود ، قال : حدثنا نافع بن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبيد الله بن عبد الله ، أو عبد الله بن عبد الله - يعني ابن عمر - ، قال : ضرب ابن عمر جارية له أحدثت فجعل يضرب رجليها ، وأحسبه ، قال : ظهرها فقلت : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله فقال : يا بني ، وأخذتني بها رأفة ؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها أما أنا فقد أوجعت حيث أضرب .

وذكره وكيع ، عن نافع بن عمر الجمحي بإسناده مثله . قال إسماعيل : وحدثنا نصر بن علي ، قال : حدثنا عبد الملك بن الصباح ، عن عمران بن حديد ، قال : سألت أبا مجلز عن الرأفة فقلت : إنا لنرجمهم إذا نزل ذلك بهم ؟ قال : ليس بذاك ، إنما الرأفة ترك الحدود إذا رفعت إلى السلطان : حدثني قاسم بن محمد ، قال : حدثنا خالد بن سعد ، [ ص: 334 ] قال : حدثنا محمد بن فطيس ، قال : حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، قال : أدركت عمر جلد رجلا فقال للجلاد : لا ترني إبطك .

وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا أحمد بن سعيد ، قال : حدثنا محمد بن محمد الباهلي ، قال : حدثنا سليمان بن عمر ، - وهو الأقطع - ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن حنظلة السدوسي ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ، ثم يدق بين حجرين حتى يلين ، ثم يضرب به قلنا لأنس : في زمن من كان هذا ؟ قال : في زمن عمر بن الخطاب .

واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود ، فقال مالك : الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر ، قال : وكذلك التعزير لا يضرب إلا في الظهر عندنا ، وقال الشافعي وأصحابه : يتقى الوجه ، والفرج ، ويضرب سائر الأعضاء ، وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مثل قول الشافعي أنه كان يقول : اتقوا وجهه ، ومذاكيره .

[ ص: 335 ] وقال أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن : تضرب الأعضاء كلها في الحدود إلا الفرج ، والوجه ، والرأس ، وقال أبو يوسف : يضرب الرأس - أيضا - . وروي عن عمر ، وابن عمر أنهما قالا : لا يضرب الرأس ، قال ابن عمر : لم نؤمر أن نضرب الرأس ، وروى سفيان ، عن عاصم ، عن أبي عثمان أن عمر - رضي الله عنه - أتي برجل في حد فقال للجلاد : اضرب ، ولا تر إبطك ، وأعط كل عضو حقه .

ومن حجة مالك أن العمل عندهم بالمدينة لا يخفى ; لأن الحدود تقام أبدا ، وليس مثل ذلك يجهل . وبنحو ذلك من العمل يسوغ الاحتجاج لكل فرقة ; لأنه شيء لا ينفك منه إلا ما روى كل واحد من الأثر عن السلف ، فيميل باختياره إليه .

[ ص: 336 ] واختلفوا في كيفية ضرب الرجال والنساء فقال مالك : الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء ، لا يقام واحد منهما ، يضربان قاعدين ، ويجرد الرجل في جميع الحدود ، ويترك على المرأة ما يسترها ، وينزع عنها ما يقيها من الضرب ، وقال الثوري : لا يجرد الرجل ، ولا يمد ، ويضرب قائما ، والمرأة قاعدة ، وقال الليث بن سعد ، وأبو حنيفة ، والشافعي : الضرب في الحدود كلها ، وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود ، إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه ، وينزع عنه المحشو والفرو ، وقال الشافعي : إن كان مده صلاحا مد .

ومن الحجة لمالك ما أدرك عليه الناس ، ومن الحجة للثوري حديث ابن عمر في رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهوديين ، وفيه : لقد رأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة ، وهذا يدل على أن الرجل كان قائما ، والمرأة قاعدة ( وضرب أبو هريرة رجلا في القذف قائما . وما جاء عن عمر ، وعلي في ضرب الأعضاء يدل على القيام ، - والله أعلم - .

وكل ما ذكرناه من المسائل في هذا الباب فإنها كلها قائمة المعنى في هذا الحديث : حديث زيد بن أسلم هذا [ ص: 337 ] يصلح ذكرها عنده . وفيه - أيضا - ما يدل على أن الستر واجب على المسلم في خاصة نفسه إذا أتى فاحشة ، وواجب ذلك عليه - أيضا - في غيره ما لم يكن سلطانا يقيم الحدود . وفي الستر على المسلم آثار كثيرة صحاح نذكر منها ههنا ما يوافق معنى هذا الحديث ، وسائرها نذكرها عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : في حديث يحيى بن سعيد يا هزال لو سترته بردائك كان خيرا لك - إن شاء الله - .

حدثني سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من نفس عن أخيه كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ، ومن يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .

قال أبو عمر :

فإذا كان المرء يؤجر في الستر على غيره ، فستره على [ ص: 338 ] نفسه كذلك ، أو أفضل ، والذي يلزمه في ذلك التوبة والإنابة ، والندم على ما صنع ، فإن ذلك محو للذنب - إن شاء الله - ، وقد حدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان ، حدثنا أحمد بن محمد بن سلام ، حدثنا محمد بن علي الشقيقي ، قال : سمعت أبي ، قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا مالك بن مغول ، عن العلاء بن بدر ، قال : إن الله لا يهلك أمة وهم يستترون بالذنوب .

حدثني محمد بن عبد الله بن حكم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : أخبرني عثمان بن أبي سودة ، قال : حدثني من سمع عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله ليستر العبد من الذنب ما لم يخرقه ، قالوا : وكيف يخرقه يا رسول الله ؟ قال : يحدث به الناس .

حدثني خلف بن القاسم ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد العمري ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن أخي ابن شهاب ، عن ابن شهاب ، عن سالم [ ص: 339 ] بن عبد الله ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : كل أمتي معافى إلا المجاهرون ، وإن من المجاهرة أن يعمل عملا لا يرضاه الله بالليل ، ثم يتحدث به بالنهار ، وذكر الحديث .

وحدثني أحمد بن عمر ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن فطيس ، قال : حدثنا مالك بن عبد الله بن سيف ، قال : حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب ، عن عيسى بن موسى بن إياس بن البكير أن صفوان بن سليم حدثه ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : اطلبوا الخير دهركم كله ، وتعرضوا نفحات الله - عز وجل - فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ، واسألوا الله أن يستر عوراتكم ، وأن يؤمن روعاتكم .

[ ص: 340 ] وحدثني قاسم بن محمد ، قال : حدثنا خالد بن سعد ، قال : حدثنا محمد بن فطيس ، قال : حدثنا إبراهيم بن الهيثم بن المهلب الجزري أبو إسحاق إملاء ، قال : حدثنا أبو اليمان ، قال : حدثنا سعيد بن سنان ، عن أبي الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن أبي ذر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أقسم على أربع قسما مبرورا ، والخامسة لو أقسمت عليها لبررت ، لا يعمل عبد خطيئة تبلغ ما بلغت ، ثم يتوب إلى الله إلا تاب الله عليه ، ولا يحب أحد لقاء الله إلا أحب الله لقاءه ، ولا يتولى الله عبدا في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة ، ولا يحب عبد قوما إلا جعله الله معهم يوم القيامة ، والخامسة لو أقسمت عليها لبررت لا يستر الله عورة عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة .

حدثنا عبد الرحمن بن مروان ، قال : حدثنا أحمد بن سليمان بن عمرو البغدادي ، قال : حدثنا أبو عمران موسى بن سهل البصري ، قال : حدثنا عبد الواحد بن غياث ، قال : حدثنا فضال بن جبير ، عن أبي أمامة الباهلي ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ثلاث لو حلفت عليهن لبررت ، والرابعة لو حلفت عليها لرجوت أن لا آثم : لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له ، ولا يتولى الله [ ص: 341 ] عبدا فيوليه إلى غيره ، ولا يحب عبد قوما إلا بعثه الله فيهم أو قال : معهم ، ولا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه عند المعاد .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا همام ، قال : سمعت إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال : حدثنا شيبة الحضرمي أنه شهد عروة يحدث عمر بن عبد العزيز عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة .

وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا عبد الله بن يونس ، قال : قال حدثنا بقي بن مخلد ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا الثقفي ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي إدريس ، قال : لا يهتك الله ستر عبد في قلبه مثقال ذرة من خير .

وأما قوله في حديث زيد بن أسلم المذكور في هذا الباب : ( فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله ) فإنه أراد ، - والله أعلم - بعد أمره بالاستتار بالذنب أنه من أقر عنده [ ص: 342 ] فلا شفاعة حينئذ له ، ولا عفو عنه ، ومن هذا وشبهه قام الدليل على أن الحدود إذا بلغت السلطان لم يجز أن يتشفع فيها ، ولا أن تترك إقامتها ، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث صفوان بن أمية : فهلا قبل أن تأتيني به ، وقول الزبير إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع .




الخدمات العلمية