الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1314 [ ص: 126 ] حديث سابع وثلاثون لزيد بن أسلم - مرسل يتصل من وجوه ثابتة .

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : التمر بالتمر مثلا بمثل فقيل له : إن عاملك على خيبر يأخذ الصاع بالصاعين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ادعوه لي ، فدعي له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتأخذ الصاع بالصاعين ؟ فقال : يا رسول الله لا يبيعونني الجنيب بالجمع صاعا بصاع ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا .

[ ص: 127 ]

التالي السابق


[ ص: 127 ] هكذا رواه في الموطإ مرسلا ، ومعناه عند مالك متصل من حديثه ، عن عبد المجيد بن سهيل عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة جميعا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والحديث ثابت محفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة وأبي سعيد .

[ ص: 128 ] ومن حديث بلال - أيضا - وغيرهم ، وقد رواه داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وفيه من الفقه أن التمر كله جنس واحد رديئه ، وطيبه ، ورفيعه ، ووضيعه لا يجوز التفاضل في شيء منه في معنى التمر بالتمر كل ما كان في معناه ، وكذلك التفاضل لا يجوز في الجنس الواحد من المأكولات المدخرات ، وهذا ، ومثله أصل في الربا .

وقد ذكرنا أصول الفقهاء في ذلك فيما تقدم من كتابنا هذا فأغنى عن الإعادة ههنا .

فالجنس الواحد من المأكولات يدخله الربا من وجهين لا يجوز بعضه ببعض متفاضلا ، ولا بعضه ببعض نسيئة هذا إذا كان مأكولا مدخرا عند مالك ، وأصحابه ، وعند الشافعي سواء .

كان المأكول مدخرا ، أو لا يدخر ، مثله القول فيه ما ذكرنا ، فأما النسيئة في بعض ذلك ببعض فمجتمع ، والتمر ، والبر دخل في معناهما كل ما يؤكل مما كان مثلهما ، وقد لخصنا هذا في غير هذا الموضع .

[ ص: 129 ] وسيأتي ذكر أصول الفقهاء فيما يدخله الربا مجودا في باب ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان - إن شاء الله - .

وفيه أن من لم يعلم بتحريم الشيء فلا حرج عليه حتى يعلم إذا كان الشيء مما يعذر الإنسان بجهله من علم الخاصة ، قال - عز وجل - : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، والبيع إذا وقع محرما ، أو على ما لا يجوز فمفسوخ مردود ، وإن جهله فاعله ، قال - صلى الله عليه وسلم - : من عمل عملا على غير أمرنا فهو رد أي مردود فإن أدرك المبيع بعينه رد ، وإن فات رد مثله في المكيل ، والموزون ، ويفسخ البيع بين المتبايعين فيه ، وإن لم يكن مكيلا ، ولا موزونا فالقيمة فيه عند مالك أعدل ، وعند الشافعي وأبي حنيفة المثل أيضا في كل شيء إلا أن يعدم فينصرف فيه إلى القيمة .

وفي اتفاق الفقهاء على أن البيع إذا وقع بالربا مفسوخ أبدا ، دليل واضح على أن بيع عامل رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 130 ] وسلم - الصاعين بالصاع في هذا الحديث كان قبل نزول آية الربا ، وقبل أن يتقدم إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن التفاضل في ذلك ، ولهذا سأله عن فعله ليعلمه بما أحدث إليه فيه من حكمه ، ولذلك لم يأمر بفسخ ما لم تتقدم العبارة فيه ، - والله أعلم - .

وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر برد هذا البيع ، وذلك محفوظ من حديث بلال ، ومن حديث أبي سعيد الخدري أيضا روى منصور وقيس بن الربيع عن أبي حمزة عن سعيد بن المسيب عن بلال قال : كان عندي مزود من تمر دون قد تغير فابتعت تمرا أجود منه في السوق بنصف كيله بعته صاعين بصاع ، وأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : من أين لك ؟ هذا فحدثته بما صنعت ، فقال : هذا الربا بعينه ، انطلق فرده على صاحبه ، وخذ تمرك ، وبعه بحنطة ، أو شعير ، ثم اشتر من هذا التمر ، ثم ائتني به ففعلت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : التمر بالتمر مثلا بمثل ، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل ، والذهب بالذهب ، وزنا بوزن ، والفضة بالفضة ، وزنا بوزن فما كان من فضل فهو [ ص: 131 ] الربا فإذا اختلف فخذوا واحدا بعشرة .

وفيه تثبيت الوكالة ; لأن خيبر كان الأمر فيها إليه ، وعامله إنما تصرف في ذلك بالوكالة ، ويوضح لك ذلك حديث بلال المذكور في هذا الباب ، وحديث أبي سعيد ، وغيره .

حدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أخا بني عدي بن النجار إلى خيبر فقدم عليه بتمر جنيب يعني طيبا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أكل تمر خيبر هكذا قال : لا يا رسول الله ، إنا لنشتري الصاع بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة من الجمع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تفعل ، ولكن بع هذا [ ص: 132 ] واشتر من ثمنه هذا وكذلك الميزان .

وبإسناده عن عبد العزيز بن محمد عن عبد المجيد بن سهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

أخبرني أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا وهب بن مسرة قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قسم فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما من التمر مختلفا ، بعضه أفضل من بعض ، قال : فذهبنا نتزايد فيه بيننا فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك إلا كيلا بكيل ، يدا بيد .

وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثنا الميمون بن حمزة الحسيني قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : [ ص: 133 ] حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل بصاع من تمر ، وأنا شاهد عنده ، فقال : من أين لك هذا ؟ هذا أطيب من تمرنا ، قال : أعطيت صاعين ، وأخذت صاعا من هذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أربيت ، ولكن بع من تمرك بسلعة ، ثم ابتع بها ما شئت من التمر .

وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا محمد بن سابق قال : حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال : كنا نرزق تمر الجميع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنا نبتاع صاعا بصاعين فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا صاعي تمر بصاع ، ولا صاعي حنطة [ ص: 134 ] بصاع ، ولا درهما بدرهمين .

حدثني عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد البزار أبو محمد قال : حدثنا عثمان بن عمر قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسروق عن بلال قال : كان عندي مد من تمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدت تمرا خيرا منه فاشتريت صاعا بصاعين فقال : رده ، ورد علينا تمرنا .

قال أبو عمر :

الحكم فيما يوزن إذا كان مما يؤكل ، أو يشرب كالحكم فيما يكال مما يؤكل ، أو يشرب سواء لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وأبي سعيد المذكور في هذا الباب ، ( وكذلك الميزان ) ، وهو أمر مجتمع عليه لا حاجة بنا إلى الكلام فيه فما ، وزن من [ ص: 135 ] المأكولات كلها جرى الربا فيها إذا كانت من جنس واحد في وجهي التفاضل والنسيئة ، فالتفاضل في الموزون الازدياد في الوزن كما أن التفاضل في المكيل الازدياد في الكيل ، وإذا اختلفت الأجناس ، وكانت موزونة مأكولة مطعومة فلا ربا فيها إلا في النسيئة كالذهب ، والورق ، والبر ، والفول ، وما كان مثل ذلك كله سواء . إلا عند من جعل العلة في الربا الكيل ، والوزن ( على ما قدمنا من اختلاف العلماء فيما سلف من كتابنا هذا ) ، وعلى ما يأتي من ذكر اختلافهم فيما يذكر في موضعه - إن شاء الله - تعالى - .




الخدمات العلمية