الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بعض أخبار ذي الرمة وإخوته ومحبوبته  

حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي ، ومحمد بن القاسم الأنباري ، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى ، عن أبي زيد ، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال: حدثني أبو صالح الفزاري ، قال:

ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب، فقال: عصمة بن مالك شيخ منهم قد أتى له مائة سنة، فقال: كان من أظرف الناس، وقال: كان آدم، خفيف العارضين، حسن المضحك، حلو المنطق، وكان إذا أنشد بربر وحسن صوته، وإذا واجهك لم تسأم حديثه وكلامه، وكان له إخوة يقولون الشعر منهم مسعود، وهمام، وخرواش، وكانوا يقولون القصيدة فيزيد فيها الأبيات فيغلب عليها فتذهب له، فأتى يوما فقال لي: يا عصمة! إن مية منقرية وبنو منقر أخبث حي وأبصره بأثر وأعلمه بطريق، فهل عندك من ناقة تزدار عليها مية؟ فقلت: نعم، عندي الجؤذر، قال: علي بها فركبناها جميعا حتى نشرف على بيوت الحي، فإذا هم خلوف، وإذا بيت مية خال، فملنا إليه فتقوص النساء نحونا ونحو بيت مي، فطلعت علينا فإذا هي جارية أملود واردة الشعر، وإذا عليها سب أصفر وقميص أخضر، فقلن أنشدن يا ذا الرمة ، فقال: أنشدهن يا عصمة ، فنظرت إليهن فأنشدتهن:


وقفت على رسم لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه     وأسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره وملاعبه



حتى بلغت إلى قوله:


هوى آلف جاء الفراق ولم تجل     جوائلها أسراره ومعاتبه



فقالت ظريفة ممن حضر: فلتجل الآن، فنظرت إليها حتى أتيت على القصيدة إلى قوله:


إذا سرحت من حب مي سوارح     على القلب أبته جميعا عوازبه



فقالت الظريفة منهن: قتلته قتلك الله، فقالت مي: ما أصحه وهنيئا له، فتنفس ذو الرمة نفسا كاد من حره يطير شعر وجهه، ومضيت في الشعر حتى أتيت على قوله:


وقد حلفت بالله مية ما الذي     أقول لها إلا الذي أنا كاذبه
إذا فرماني الله من حيث لا أرى     ولا زال في داري عدو أحاربه



[ ص: 281 ] فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله، فقالت مي: خف عواقب الله يا غيلان، ثم أتيت على الشعر حتى انتهيت إلى قوله:


إذا راجعتك القول مية أو بدا     لك الوجه منها أو نصا الدرع سالبه
فيا لك من جد أسيل ومنطق     رخيم ومن خلق تعلل جادبه



فقالت: تلك الظريفة: ها هذه وهذا القول قد راجعتك، تريد واجهتها فمن لك أن ينضو الدرع سالبه، فالتفتت إليها مية، فقالت: قاتلك الله ما أعظم ما تجيئين به، فتحدثنا ساعة ثم قالت الظريفة للنساء: إن لهما شأنا فقمن بنا، فقمن وقمت معهن فجلست بحيث أراهما، فجعلت مية تقول له: كذبت، فلبثت طويلا ثم أتاني ومعه قارورة فيها دهن، قال: هذا دهن طيب أتحفتنا به مية، وهذه قلادة للجؤذر، والله لا أخرجتها من يدي أبدا، فكان يختلف إليها حتى إذا انقصى الربيع ودعا الناس الصيف أتاني، فقال: يا عصمة! قد رحلت مي فلم يبق إلا الربع والآثار، فاذهب بنا ننظر إلى آثارهم، فخرجنا حتى انتهينا فوقف، وقال:


ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى     ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وإن لم تكوني غير شام بقفرة     تجر بها الأذيال صيفية كدر



فقلت له: ما بالك، فقال لي: يا عصمة إني لجلد، وإن كان مني ما ترى فكان آخر العهد به.

والخبر على لفظ أبي عبد الله. قال: وحدثت عن ابن أبي عدي ، قال: سمعت ذا الرمة يقول: بلغت نصف عمر الهرم أربعين سنة، وقال ذو الرمة :


على حين راهقت الثلاثين وارعوت     لداتي وكان الحلم بالجهل يرجح
إذا خطرت من ذكر مية خطرة     على القلب كادت في فؤادك تجرح
تصرف أهواء القلوب ولا أرى     نصيبك من قلبي لغيرك يمنح
وبعض الهوى بالهجر يمحى فيمحى     وحبك عندي يستجد ويربح
ولما شكوت الحب كيما تثيبني     بوجدي قالت إنما أنت تمزح
بعادا وإدلالا علي وقد رأت     ضمير الهوى قد كاد بالجسم يبرح
لئن كانت الدنيا علي كما أرى     تباريح من ذكراك للموت أروح



ويروى: تباريح من مي فللموت أروح قال القاضي : وهذه القصيدة من قصائد ذي الرمة الطوال المشهورة المستحسنة وأولها:


أمنزلتي مي سلام عليكما     على النأي والنائي يود وينصح
[ ص: 282 ] ومنها ذكرتك إذ مرت بنا أم شادن     أمام المطايا تشرئب وتسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرة     شعاع الضحى في متنها يتوضح
رأتنا كأنا عامدون لصيدها     ضحى فهي تدنو تارة وتزحزح
هي الشبه أعطافا وجيدا ومقلة     ومية أبهى بعد منها وأملح



وهذه من أحسن الحائيات التي أتت على هذا الروي، ونظيرها كلمة ابن مقبل التي أولها:


هل القلب عن أسماء سال فمسمح     وزاجره عنها الخيال المبرح



وقول جرير :


صحا القلب عن سلمى وقد برحت به     وما كان يلقى من تماضر أبرح



وذكر في خبر ذي الرمة بهذا الإسناد إخوة ذي الرمة فقيل فيه : مسعود ، وهمام ، وخرقاش ، فأما مسعود فمن مشهوري إخوته، وإياه عنى ذو الرمة بقوله:


أقول لمسعود بجرعاء مالك     وقد هم دمعي أن تسح أوائله



ومنهم هشام وهو الذي استشهد سيبويه من الإضمار في ليس بقوله.

فقال: قال هشام بن عقبة أخو ذي الرمة :


هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها     وليس منها شفاء الداء مبذول



ومنهم أوفى وهو الذي عناه بعض إخوته في شعر رثا فيه ذا الرمة أخاهما:


تعزيت من أوفى بغيلان بعده     عزاء وجفن العين ملآن مترع
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده     ولكن نكء القرح بالقرح أوجع



وذكره ذو الرمة ، فقال:


أقول لأوفى حين أبصر باللوى     صحيفة وجهي قد تغير حالها



وقوله: فإذا هم خلوف، يقال: لمن تخلف بالحي إذا ظعنوا وانتجعوا: خلوف، قال الشاعر:


فيا لذات يوم أزور وحدي     ديار الموعدي وهم خلوف



يروى فيالذات يوم ويوم، أزور، فمن عنى بقوله فيالذات بالإضافة إلى الياء التي هي ضمير المتكلم وأسقطها اكتفاء بكسرة التاء التي هي في موضع نصب لإقامة وزن الشعر، فيوم منصوب لا غير على الظرف، ومن أضاف قوله فيالذات إلى اليوم جاز له النصب لإضافته إلى الفعل وهي التي يسميها كوفيو النحاة إضافة غير محصنة، وجاز الجر واختير لإضافته إلى فعل معرب غير مبني.

وقد يقال أيضا للحي الظاعن: خلوف.

وقول الراوي في هذا الخبر: مي في مواضع فيه، ومية في مواضع أخر، فقد ذكر [ ص: 283 ] النحويون أن ذا الرمة كان يسميها تارة مية وتارة مي، وهذا بين في كثير من شعره، من ذلك قوله:


ديار مية إذ مي تساعفنا     ولا يرى مثلها عجم ولا عرب



وروى قوله:


فيما مي ما يدريك أين مناخنا     معرقة الألحى يمانية شجرا



بالرفع والنصب فمن رواه بالنصب فوجهه أنه رخم على قول من قال: يا حار أقبل وهو أقيس وجهي الترخيم، ومن رواه بالرفع فعلى أن "مي" اسم تام غير مرخم، لأنه منادى مفرد وقد يجوز ترخيمه على قول من قال: يا حار.

ومما يبين أنه كان يقصد تسميتها بمي على غير الترخيم، قوله:


تداويت من مي بتكليم ساعة     فما زاد إلا ضعف ما بي كلامها



وقوله: جارية أملود، معناه: ناعمة كما قال الشاعر:


أريت إن جاءت به أملودا     مرجلا ويلبس البرودا



وأما قوله: وإذا عليها سب أصفر، فإنه يكون الرداء والخمار، قال الشاعر:


وأشهد من عوف حلولا كثيرة     يحجون سب الزبرقان المزعفرا



والسب: الخيط، والسب أيضا الكفؤ في السباب كما قال الشاعر:


لا تسببني فلست بسبي     إن سبي من الرجال الكريم



وقال الأخطل :


بني أسد لستم بسبي فأقصروا     ولكنما سبي سليم وعامر



قوله: أونضا الدرع سالبه، معنى نضاه: خلعه، يقال: نضا السيف من غمده وانتضاه ونضا الثوب عنه إذا خلعه، قال : امرؤ القيس :


فقمت وقد نضت لنوم ثيابها     لدى الستر إلا لبسة المتفضل



وقوله: ومنطق رخيم، الرخيم الذي فيه تقطع يستحسن، ومثله قوله أيضا:


لها بشر مثل الحرير ومنطق     رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر



ومن هذا قولهم: رخمت الدجاجة إذا قطعت بيضها، ومنه ترخيم الكلام في العربية كقولك: يا حار ويا مال، وقوله: تعلل جادبه، الجادب: العائب، ومنه الخبر جدب عمر السمر بعد العشاء  أي: عاب السمر وكرهه بعد العشاء.

وقوله ألا يا اسلمي، معناه: يا هذه اسلمي، وعلى هذا المذهب قراءة من قرأ " ألا يا اسجدوا " ومن هذا النحو قول الأخطل :


ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر     وإن كان حيانا عدي آخر الدهر



وقال الآخر:

[ ص: 284 ]

يا لعنة الله والأقوام كلهم     والصالحين على سمعان من جار



وهذا باب واسع جدا، ونحن نشبع القول فيه إذا انتهينا إلى البيان عن قول الله عز وجل: " ألا يا اسجدوا لله " وشرح ما فيه من التأويل والقراءات في موضعه في كتبنا في علل التأويل والتلاوة إن شاء الله.

وقول ذي الرمة : على حين راهقت الثلاثين بنصب حين، هكذا رويناه، وهو الوجه المتفق على صحته في الإعراب، والمختار عند كثير من نظار النحاة الفتح لإضافته إلى مبني غير معرب، وذلك " راهقت " الذي هو فعل ماض كما قال الشاعر:


على حين عاتبت المشيب على الصبا     وقلت ألما تصح والشيب وازع



وعلى هذا الوجه قراءة من قرأ من القرأة " ومن خزي يومئذ " ومن قرأ: يومئذ " ومن عذاب يومئذ "، وهذا كله مشروح مع تسمية من قرأ به، وحجج المختلفين فيه في كتبنا المؤلفة في حروف القرآن وتأويله.

التالي السابق


الخدمات العلمية