الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
متى أحصل عندك ؟

حدثني محمد بن عمر بن نصير الحربي ، قال : حدثنا محمد بن جعفر الكوفي ، قال : أخبرني عبد الله بن إبراهيم الوراق ، قال : صحبت رجلا في السفر وأنست به لأدبه وحسن أخلاقه ، فصرنا إلى مصر ، وكنت أقصده وأبيت عنده الليلة والليلتين في الأسبوع ، وقل ما أخل بزيارته في ليلة كل جمعة ، وكان ينزل غرفة من الغرف فقصدت في بعض العشايا زيارته فوجدت غرفته مغلوقة وعليها مكتوب :


أبدا تحصل عندي فمتى أحصل عندك     إن تناصفنا وإلا
أنت يا وراق وحدك

فانصرفت إلى منزلي ثم لقيته من غد فضحك كل واحد منا إلى صاحبه فيما كان من مداعبته فيما كتبه ، واستدعيت بعد ذلك زيارته إياي ، وكان يبيت الليالي عندي وأبيت عنده إلى أن فرقت بيننا حوادث الأيام .
 

تأخير كل وتقديمها

قال القاضي : قوله في هذه الحكاية : في ليلة كل جمعة واللفظ الآتي في هذا الخبر صحيح يؤدي عن هذا المعنى ، وقد جاء في بعض القرآن نحو هذا في موضع من القرآن ، وهو قول الله تعالى كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار فقرأ جمهور القراء من أهل الحرمين والشام والعراقين على كل قلب متكبر ،  بإضافة كل إلى قلب ، على أن قوله متكبر جبار ، من صفة ذي القلب ، وإن كان القلب نفسه قد يوصف بذلك ، ونحو هذا قولهم : فلان سليم القلب ، وقلب فلان سليم ، فيجري الصفة على اللفظ تارة أي على القلب إذ كانت السلامة والتكبر والجبرية فيه ، وتارة على صاحبه ويجعل صفة لجملته لاستحقاقه الوصف لها ، وإن كانت حالة في قلبه ، وقد قرأ بعض القراء على كل قلب متكبر بتنوين القلب ، وجعل الصفة له إذ كانت فيه ، وممن قرأ هكذا أبو عمرو بن العلاء من البصرة ، وذكر أنها من قراءة عبد الله بن مسعود على كل قلب متكبر ، بإضافة قلب إلى كل على الوجه الذي قدمنا ذكره ، وهذه القراءة شاهدة للإضافة موافقة في المعنى قراءة من أضاف على الوجه الآخر ، وحكى الفراء أنه سمع بعض العرب يقول : رجل سفره يوم كل جمعة ، يريد كل يوم جمعة ، قال : والمعنى واحد .

[ ص: 375 ] قال القاضي : ولفظ قراءتنا على ما في مصاحفنا على الإضافة أولى بإبانة المعنى وطريق التحقيق دون التجوز ، لأن قراءتنا أتت بإضافة كل إلى قلب ، واستوعبت قلوب المنكرين ، وجرت على إضافة جمع إلى ما دليل الجمع ظاهر في لفظه ، وقراءة عبد الله أضيف فيها واحد إلى جماعة تجوزا وعني به معنى الجمع وهو بمنزلة قول الشاعر :


كلوا في نصف بطنكم تعيشوا     فإن زماننا زمن خميص

وقول الآخر :


كأنه وجه تركيين قد عصبا     مستهدف لطعان غير تذبيب

وقول ابن عبدة :


بها جيف الحسرى فأما عظامها     فبيض وأما جلدها فصليب

وقول جرير :


الواردين وتيم في ذرا سبأ     قد عض أعناقهم جلد الجواميس

وقال الآخر :


لا تنكروا القتل وقد سبينا     في حلقكم عظم وقد شجينا

على أن وجه قراءة عبد الله في هذا المعنى أقوى مما في هذه الأبيات ، لأن لكل لفظا يقتضي التوحيد ، ومعنى يقتضي الجمع ، وقد يتجه في قراءة عبد الله حملها على ما لا يتغير المعنى به من التجوز ، الذي يسميه النحويون القلب ، وقد تأول عليه قوم من النحويين كثيرا من آي القرآن وما وردت به الأخبار ، وهو الباب الذي بلغتين : أدخلت القلنسوة رأسي ، وتهيبني الفلاة ، كما قال الشاعر :


ولا تهيبني الموماة أركبها     إذا تجاوبت الأصداء بالسحر

وهذا باب قد استقصيناه في كتبنا ، وأمللنا منه قدرا واسعا على شرح وتفصيل فيما أمللناه من النثر والنظم ، ومن شرح مختصر أبي عمرو الجرمي في النحو ، وأتينا فيه بما لا نعلم أحدا سبقنا إليه ، ومن نظر فيما هنالك تبين منه ما وصفنا إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية