الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المجلس السابع والخمسون

رسول الله يعرض نفسه على القبائل  

أخبرنا المعافى بن زكرياء قال أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المعروف بحرمي الأضاحي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني إسماعيل بن مهران قال حدثني أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال حدثني علي بن أبي طالب عليه السلام قال : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر ، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر وكان رجلا نسابة فسلم فردوا السلام فقال : ممن القوم؟ قالوا : من ربيعة ، قال : من هامتها أو من لهازمها ، قالوا : بل من هامتها العظمى قال : وأي هامتها العظمى؟ قالوا : ذهل الأكبر ، قال : فمنكم عوف الذي كان يقال : لا حر بوادي عوف؟ قالوا : لا ، قال : فمنكم بسطام أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا : لا ، قال : فمنكم حسان بن ربيعة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا : لا ، قال : فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا : لا ، قال : فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا : لا ، قال :

[ ص: 421 ] فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا : لا ، قال : فأنتم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا : لا ، قال : فلستم أنتم ذهل الأكبر أنتم ذهل الأصغر . فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له دعفل حين بقل وجهه ، فقال :


إن على سائلنا أن نسأله والعبء لا تعرفه أو تحمله

يا هذا إنك قد سألتنا فلم نكتمك شيئا ، فممن الرجل؟ قال : من قريش ، قال : بخ بخ أهل الشرف والرئاسة ، فمن أي قريش أنت؟ قال : من بني تيم بن مرة ، قال : أمكنت والله الرامي من صفا الثغرة ، فمنكم قصي بن كلاب الذي جمع الله به القبائل من فهر فكان يدعى مجمعا؟ قال : لا ، قال : فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال : لا ، قال : فمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء الذي كأن وجهه قمر يضيء ليلة الظلام الداجي؟ قال : لا ، قال : أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال : لا ، قال : أفمن أهل الندوة؟ قال : لا . قال : أفمن أهل الحجابة؟ قال : لا ، قال : أفمن أهل السقاية أنت؟ قال : لا ، قال : فاجتذب أبو بكر رضي الله عنه زمام ناقته فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال دغفل :


صادف درء السيل درءا يدفعه     يهضبه يرفعه أو يصدعه

وايم الله لو بثت لأخبرتك أنك من زمعات قريش أو ما أنا بدغفل . قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال علي فقلت : يا أبا بكر وقعت من الأعرابي على باقعة ، قال : أجل . إن فوق كل ذي طامة طامة والبلاء موكل بالمنطق . قال علي عليه السلام : ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليه السكينة والوقار ، فتقدم أبو بكر ، فسلم ، فردوا عليه السلام ، فقال : ممن القوم؟ قالوا : من بني شيبان بن ثعلبة ، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ليس بعد هؤلاء عز في قوم . وكان في القوم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن يزيد . وكان مفروق بن عمرو قد علاهم جمالا ولسانا ، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته ، وكان أدنى القوم إلى أبي بكر فقال له أبو بكر : كيف العدد فيكم؟ قال : إنا لنزيد على ألف ولن نغلب عن قلة ، قال : فكيف المنعة فيكم؟ قال : علينا الجهد ولكل قوم حد ، قال : فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ قال : إنا أشد ما نكون غضبا حين نلقى وأشد ما نكون لقاء حين نغضب ، وإنا نؤثر جيادنا على أولادنا ، والسلاح على اللقاح ، النصر من عند الله تعالى يديلنا لنا وعلينا ، لعلك أخو قريش ؟ قال : إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا في الرحل ، قال : قد بلغنا أنه يقول ذلك . قالوا : فإلى ما تدعو يا أخا قريش ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله  وأن تؤووني وتنصروني ، فإن قريشا قد ظاهروا على أمر الله وكذبوا رسله ، واستغنوا بالباطل عن الحق ، وهو الله الغني الحميد ، قال فإلى ما تدعو أيضا؟ قال : (فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا إلى قوله : ذلكم وصاكم به قالوا : وإلى ما تدعو أيضا؟ قال : فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي الآية . فقال مفروق بن عمرو : دعوت والله إلى محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق ولقد أفك قوم ظاهروا عليك وكذبوك . وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال وهذا هانئ بن قبيصة ، وهو شيخنا وصاحب حينا ، فتكلم هانئ بن قبيصة فقال : يا أخا قريش قد سمعت مقالتك ، وإن لنرى تركنا ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلسته منا لم ننظر في أمرك ولم نتثبت في عاقبة ما تدعو إليه ولها في الرأي وإعجالا في النظر ، والوله يكون مع العجلة ، ومن ورائنا قوم نكره أن تعقد عليهم عقدا ، ولكن نرجع وترجع ، وننظر وتنظر . وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال : وهذا شيخنا وكبيرنا وصاحب حربنا ، فتكلم المثنى فقال : يا أخا قريش قد سمعت مقالتك ، فأما الجواب فهو جواب هانئ بن قبيصة ، وأما أن نؤويك وننصرك فإنا نزلنا بين صيرين : اليمامة السمامة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فما هذان الصيران؟ فقال : مياه العرب وأنهار كسرى ، فأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول ، وأما ما يلي أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور ، وعذره غير مقبول ، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا ، ولسنا نأمن أن يكون هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما يكره الملوك ، فإن أحببت أن نؤويك مما يلي مياه العرب آويناك ونصرناك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق ، وليس يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه ، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يمنحكم الله عز وجل أموالهم ويفرشكم نساءهم ويورثكم ديارهم ، أتسبحون الله تعالى وتقدسونه؟ فقال النعمان : هذا لك ، فتلا [ ص: 422 ] عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ووثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي وقال : يا علي ، أي أحلام في الجاهلية بها يكف الله بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون في هذه الدنيا؟!


تعليقات على الخبر

قال القاضي أبو الفرج : قول أبي بكر رضي الله عنه : من لهازمها ، اللهازم : نواحي العنق وجوانبه ، قال الراجز :


يا خاز باز أرسل اللهازما



وقوله : من صفا الثغرة : الصفا الحجر الأملس ومنه إن الصفا والمروة قال جرير :

[ ص: 423 ]

هبت شمالا فذكرى ما ذكرتكم     إلى الصفاة التي شرقي حورانا

وقال أبو ذؤيب :


حتى كأني للحوادث صخرة     بصفا المشقر كل يوم تقرع

ويروى بقفا المشقر ، ويروى المشرق؛ وذكرت أبياتا عن لي في بعضها ذكر الصفا وقرعها وهي :


حلفت يمينا برة وشفعتها     فهل أنت مني باليمينين قانع
فما نازعت نفسي إلى ما كرهته     ولا خلتها يوما إليه تنازع
ولا حل من قلبي هواك محلة     من الناس ممن أصطفي وأشايع
لقد قرع الواشي بأهون سعيه     صفاة قديما أخطأتها القوارع
فأزعجني في ضعفه وهو ساكن     وشرد عن عيني الكرى وهو هاجع

وأما الثغرة فهي اللبة ، قال عنترة :


ما زلت أرميهم بثغرة نحره     ولبانه حتى تسربل بالدم

وروي ثغرة وجهه . وقال ثابت : الثغرة : الهزمة التي بين الترقوتين . وقوله : الهضبة : الدفعة من المطر تجمع هضبا ، قال ذو الرمة :


فبات يشئزه ثأد ويسهره     تذوب الريح والوسواس والهضب

وأما قول هاني بن قبيصة : وله في الرأي الوله : الحيرة القلق ، ولعله قال : وهل ، فمن ها هنا اشتبه . والوهل : الخطأ والغلط والزلل .

وأما قول المثنى بن حارثة : فإنا نزلنا بين صيرين فإن الصير : الجانب والناحية والحد . قال زهير :


وقد كنت من سلمى سنين ثمانيا     على صير أمر ما يمر ولا يحلو

التالي السابق


الخدمات العلمية