الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لماذا سود الأحنف  

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا العباس بن بكار قال: حدثنا شبيب بن شيبة عن خالد بن صفوان أنه كان بالرصافة عند هشام بن عبد الملك. فقدم العباس بن الوليد بن عبد الملك فغشيه الناس، فكان خالد في من أتاه، وكان العباس يصوم الاثنين والخميس؛ قال خالد: فدخلت عليه في يوم خميس فقال: يا ابن الأهتم، خبرني عن تسويدكم الأحنف وانقيادكم له، وكنتم حيا لم تملكوا في جاهلية قط. فقلت: إن شئت أخبرتك عنه بخصلة لها سود، وإن شئت بثنتين، وإن شئت بثلاث، وإن شئت حدثتك بقية عشيتك حتى تنقضني ولم تشعر بصومك. قال: هات الأولى فإن اكتفينا وإلا سألناك. قال: فقلت: كان أعظم من رأينا وسمعنا - ثم أدركني ذهني فقلت: غير الخلفاء - سلطانا على نفسه فيما أراد حملها عليه وكفها عنه. قال: لقد ذكرتها نجلاء كافية، فما الثانية؟ قلت: قد يكون الرجل عظيم السلطان على نفسه ولا يكون بصيرا بالمحاسن والمساوئ ولم ير ولم يسمع بأحد كان أبصر بالمحاسن والمساوئ منه، فلا يحمل السلطنة إلا على حسن، ولا يكفها إلا عن قبيح. قال: قد جئت بصلة للأولى لا تصلح إلا بها، فما الثالثة؟ قلت: قد يكون الرجل عظيم السلطان على نفسه بصيرا بالمحاسن والمساوئ ولا يكون حظيظا، فلا يفشو ذلك له في الناس ولا يذكر به فيكون عند الناس مشهورا. قال: وأبيك لقد جئت بصلة الأولتين فما بقية ما يقطع عني العشي قلت: أيامه السالفة قال: وما أيامه السالفة؟ قلت: يوم فتح خراسان، اجتمعت له جموع الأعاجم بمرو الروذ فجاءه ما لا قبل له به، وهو في منزل مضيعة، وقد بلغ الأمر به فصلى عشاء الآخرة ودعا ربه وتضرع إليه أن يوفقه، ثم خرج يمشي في العسكر مشي المكروب يتسمع ما يقول الناس، فمر بعبد يعجن وهو يقول لصاحبه: العجب لأميرنا يقيم بالمسلمين في منزل مضيعة وقد جاءه العدو من وجوه، وقد أطافوا بالمسلمين من نواحيهم ثم اتخذوهم أعراضا وله متحول. فجعل الأحنف يقول: اللهم وفق، اللهم وفق، اللهم سدد. فقال صاحب العبد للعبد: فما الحيلة؟ قال: أن ينادي الساعة بالرحيل، فإنما بينه وبين الغيضة فرسخ، فيجعلها خلف ظهره فيمنعه الله بها، فإذا امتنع ظهره بعث بمجنبته اليمنى واليسرى فيمنع الله بهما ناحيته ويلقى عدوه من جانب واحد. فخر الأحنف ساجدا، ثم نادى بالرحيل مكانه،

[ ص: 665 ] فارتحل المسلمون مكبين على رايتهم حتى الغيضة، فنزل في قبلها وأصبح فأتاه العدو، فلم يجدوا إليه سبيلا إلا من وجه واحد، وضربوا بطبول أربعة، فركب الأحنف وأخذ الراية وحمل بنفسه على طبل ففتقه وقتل صاحبه وهو يقول:


إن على كل رئيس حقا أن يخضب الصعدة أو تندقا



ففتق الطبول الأربعة وقتل حملتها. فلما فقد الأعاجم أصوات طبولهم انهزموا، فركب المسلمون أكتافهم فقتلوهم قتلا لم يقتلوا مثله قط، وكان الفتح. واليوم الثاني أن عليا رضي الله عنه حين ظهر على أهل البصرة يوم الجمل أتاه الأشتر وأهل الكوفة بعدما اطمأن به المنزل وأثخن في القتل، فقالوا: أعطنا، إن كنا قاتلنا أهل البصرة حين قاتلناهم وهم مؤمنون فقد ركبنا حوبا كبيرا، وإن كنا قاتلناهم كفارا وظهرنا عليهم عنوة فقد حلت لنا غنيمة أموالهم وسبي ذراريهم، وذلك حكم الله تعالى وحكم نبيه صلى الله عليه وسلم في الكفار إذا ظهر عليهم. فقال علي: إنه لا حاجة بكم أن تهيجوا حرب إخوانكم، وسأرسل إلى رجل منهم فأستطلع رأيهم وحجتهم فيما قلتم. فأرسل إلى الأحنف بن قيس في رهط فأخبرهم بما قال أهل الكوفة، فلم ينطق أحد غير الأحنف فإنه قال: يا أمير المؤمنين لماذا أرسلت إلينا؟ فوالله إن الجواب عنا لعندك، ولا نتبع الحق إلا بك، ولا علمنا العلم إلا منك. قال: أحببت أن يكون الجواب عنكم منكم ليكون أثبت للحجة وأقطع للتهمة، فقل. فقال: إنهم قد أخطأوا وخالفوا كتاب الله تعالى وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، إنما كان السبي والغنيمة على الكفار الذين دارهم دار كفر، والكفر لهم جامع ولذراريهم، ولسنا كذلك،  وإنها دار إيمان ينادى فيها بالتوحيد وشهادة الحق وإقام الصلاة، وإنما بغت طائفة أسماؤهم معلومة، أسماء أهل البغي؛ والثاني: حجتنا أنا لم نستجمع على ذلك البغي، فإنه قد كان من أنصارك، من أثبتهم بصيرة في حقك وأعظمهم غناء عنك، طائفة من أهل البصرة، فأي أولئك يجهل حقه وتنسى قرابته؟ إن هذا الذي أتاك به الأشتر وأصحابه قول متعلمة أهل الكوفة، وايم الله لئن تعرضوا لها ليكرهن عاقبتها ولا تكون الآخرة كالأولى. فقال علي رضي الله عنه: ما قلت إلا ما نعرف، فهل من شيء تخصون به إخوانكم لما قاسوا من الحرب؟ قالوا: نعم، أعطياتنا ما في بيت المال ولم نكن لنصرفها في عدلك عنا، فقد طبنا عنها نفسا في هذا العام فاقسمها فيهم. فدعاهم علي كرم الله وجهه فأخبرهم بحجج القوم وبما قالوا وبموافقتهم إياه، ثم قسم المال بينهم خمسمائة لكل رجل. فهذا اليوم الثاني. وأما اليوم الثالث فإن زيادا أرسل إليه بليل وهو جالس على كرسي في صحن داره، فقال: يا أبا بحر ما أرسلت إليك في أمر تنازعني فيه مخلوجة، ولكني أرسلت إليك وأنا على صريمة، وكرهت أن يروعك أمر يحدث لا تعلمه. قال: ما هو؟ قال: هذه الحمراء قد كثرت بين أظهر المسلمين وكثر عددهم وخفت عدوتهم،

[ ص: 666 ] والمسلمون في ثغرهم وجهادهم عدوهم، وقد خلفوهم في نسائهم وحريمهم، فأردت أن أرسل إلى كل من كان في عرافة من المقاتلة فيأتوا بسلاحهم ويأتيني كل عريف بمن في عرافته من عبد أو مولى فأضرب رقابهم فتؤمن ناحيتهم. قال الأحنف: ففيم القول وأنت على صريمة؟ قال: لتقولن. قال: فإن ذلك ليس لك، يمنعك منه خصال ثلاث: أما الأولى فحكم الله في كتابه وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، وما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس من قال: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بل حقن دمه، والثانية: أنهم غلة الناس لم يغز غاز فخلف لأهله ما يصلحهم إلا من غلاتهم، وليس لك أن تحرمهم، وأما الثالثة: فهم يقيمون أسواق المسلمين، أفتجعل العرب يقيمون أسواقهم قصارين وقصابين وحجامين؟؟! قال: فوثب عن كرسيه ولم يعلمه أنه قبل منه، وانصرف الأحنف. قال: فما بت بليلة أطول منها أتسمع الأصوات، قال: فلما نادى أول المؤذنين قال لمولى له: إيت المسجد فانظر هل حدث أمر، فرجع فقال: صلى الأمير ودخل وانصرف ولم يحدث إلا خير.

التالي السابق


الخدمات العلمية