( 4397 ) فصل : وإذا وقف على سبيل الله ، وسبيل الثواب ، وسبيل الخير  ، فسبيل الله هو الغزو والجهاد في سبيل الله ، فيصرف ثلث الوقف إلى من يصرف إليهم السهم من الزكاة ، وهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان ، وإن كانوا أغنياء ، وسائر الوقف يصرف إلى كل ما فيه أجر ومثوبة وخير ; لأن اللفظ عام في ذلك . وقال أصحابنا : يجزأ الوقف ثلاثة أجزاء ، فجزء يصرف إلى الغزاة ، وجزء يصرف إلى أقرب الناس إليه من الفقراء ، لأنهم أكثر الجهات ثوابا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة   } . 
والثالث يصرف إلى من يأخذ الزكاة لحاجته ، وهم خمسة أصناف ; الفقراء ، والمساكين ، والرقاب والغارمون لمصلحتهم ، وابن السبيل ; لأن هؤلاء أهل حاجة منصوص عليهم في القرآن ، فكان من نص الله تعالى عليه في كتابه أولى من غيره ، وإن ساواه في الحاجة ، وهذا مذهب  الشافعي  
ولنا أن لفظه عام ، فلا يجب التخصيص بالبعض لكونه أولى ، كالفقراء والمساكين في الزكاة ، لا يجب تخصيص أقاربه منهم بها ، وإن كانوا أولى ، وكذلك سائر الألفاظ العامة . وإن أوصى في أبواب البر ، صرف في كل ما فيه بر وقربة . وقال أصحابنا : يصرف في أربع جهات ; أقاربه غير الوارثين ، والمساكين ، والجهاد ، والحج . قال  أبو الخطاب    : وعنه فداء الأسرى مكان الحج . ووجه القولين ما تقدم في التي قبلها . ( 4398 ) مسألة قال : ( فإن لم يجعل آخره للمساكين ، ولم يبق ممن وقف عليه أحد  ، رجع إلى ورثة  [ ص: 363 ] الواقف . في إحدى الروايتين عن  أبي عبد الله  ، رحمه الله ، والرواية الأخرى يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف ) وجملة ذلك أن الوقف الذي لا اختلاف في صحته ، ما كان معلوم الابتداء والانتهاء ، غير منقطع ، مثل أن يجعل على المساكين ، أو طائفة لا يجوز بحكم العادة انقراضهم . وإن كان غير معلوم الانتهاء ، مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة ، ولم يجعل آخره للمساكين ، ولا لجهة غير منقطعة ، فإن الوقف يصح . وبه قال  مالك  ،  وأبو يوسف  ،  والشافعي  في أحد قوليه . وقال  محمد بن الحسن    : لا يصح . وهو القول الثاني  للشافعي    ; لأن الوقف مقتضاه التأبيد . 
فإذا كان منقطعا صار وقفا على مجهول ، فلم يصح ، كما لو وقف على مجهول في الابتداء . ولنا أنه تصرف معلوم المصرف ، فصح ، كما لو صرح بمصرفه المتصل ، ولأن الإطلاق إذا كان له عرف ، حمل عليه ، كنقد البلد وعرف المصرف ، وهاهنا هم أولى الجهات به ، فكأنه عينهم . إذا ثبت هذا فإنه ينصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف . وبه قال  الشافعي    . وعن  أحمد  رواية أخرى ، أنه ينصرف إلى المساكين 
واختاره القاضي ، والشريف أبو جعفر    ; لأنه مصرف الصدقات وحقوق الله تعالى من الكفارات ونحوها ، فإذا وجدت صدقة غير معينة المصرف ، انصرفت إليهم ، كما لو نذر صدقة مطلقة . وعن  أحمد  رواية ثالثة ، أنه يجعل في بيت مال المسلمين ; لأنه مال لا مستحق له ، فأشبه مال من لا وارث له . وقال  أبو يوسف    : يرجع إلى الواقف وإلى ورثته ، إلا أن يقول : صدقة موقوفة ، ينفق منها على فلان وعلى فلان . 
فإذا انقرض المسمى كانت للفقراء والمساكين . لأنه جعلها صدقة على مسمى ، فلا تكون على غيره ، ويفارق ما إذا قال : ينفق منها على فلان وفلان . فإنه جعل الصدقة مطلقة . ولنا أنه أزال ملكه لله تعالى ، فلم يجز أن يرجع إليه ، كما لو أعتق عبدا ، والدليل على صرفه إلى أقارب الواقف ، أنهم أولى الناس بصدقته ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : { صدقتك على غير رحمك صدقة ، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة   } 
وقال صلى الله عليه وسلم : { إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس   } . ولأن فيه إغناءهم وصلة أرحامهم ، لأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات ، كذلك صدقته المنقولة . إذا ثبت هذا ، فإنه في ظاهر كلام  الخرقي  ، وظاهر كلام  أحمد  ، يكون للفقراء منهم والأغنياء ; لأن الوقف لا يختص الفقراء ، ولو وقف على أولاده ، تناول الفقراء والأغنياء ، كذا هاهنا . وفيه وجه آخر ، أنه يختص الفقراء منهم ، لأنهم أهل الصدقات دون الأغنياء ، ولأنا خصصناهم بالوقف لكونهم أولى الناس بالصدقة  ، وأولى الناس بالصدقة الفقراء دون الأغنياء 
واختلفت الرواية في من يستحق الوقف من أقرباء الواقف  ، ففي إحدى الروايتين ، يرجع إلى الورثة منهم ; لأنهم الذين صرف الله تعالى إليهم ماله بعد موته واستغنائه عنه ، فكذلك يصرف إليهم من صدقته ما لم يذكر له مصرفا ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {إنك أن تترك ورثتك أغنياء ،  [ ص: 364 ] خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس   } . فعلى هذا يكون بينهم على حسب ميراثهم ، ويكون وقفا عليهم . نص عليه  أحمد  ، وذكره  القاضي  ، لأن الوقف يقتضي التأبيد ، وإنما صرفناه إلى هؤلاء لأنهم أحق الناس بصدقته ، فصرف إليهم مع بقائه صدقة . 
ويحتمل كلام  الخرقي  أن يصرف إليهم على سبيل الإرث ، ويبطل الوقف فيه . فعلى هذا يكون كقول  أبي يوسف    . والرواية الثانية يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف ، دون بقية الورثة من أصحاب الفروض ، ودون البعيد من العصبات ، فيقدم الأقرب فالأقرب ، على حسب استحقاقهم لولاء الموالي ، لأنهم خصوا بالعقل عنه ، وبميراث مواليه ، فخصوا بهذا أيضا . وهذا لا يقوى عندي ، فإن استحقاقهم لهذا دون غيرهم من الناس لا يكون إلا بدليل من نص أو إجماع أو قياس ، ولا نعلم فيه نصا ، ولا إجماعا ، ولا يصح قياسه على ميراث ولاء الموالي ; لأن علته لا تتحقق هاهنا 
وأقرب الأقوال فيه صرفه إلى المساكين ; لأنهم مصارف مال الله تعالى وحقوقه ، فإن كان في أقارب الواقف مساكين ، كانوا أولى به ، لا على سبيل الوجوب ، كما أنهم أولى بزكاته وصلاته مع جواز الصرف إلى غيرهم ، ولأننا إذا صرفناه إلى أقاربه على سبيل التعيين ، فهي أيضا جهة منقطعة ، فلا يتحقق اتصاله إلا بصرفه إلى المساكين . وقال  الشافعي    : يكون وقفا على أقرب الناس إلى الواقف ، الذكر والأنثى فيه سواء . 
( 4399 ) فصل : فإن لم يكن للواقف أقارب  ، أو كان له أقارب فانقرضوا ، صرف إلى الفقراء والمساكين وقفا عليهم 
لأن القصد به الثواب الجاري عليه على وجه الدوام ، وإنما قدمنا الأقارب على المساكين ، لكونهم أولى ، فإذا لم يكونوا ، فالمساكين أهل لذلك ، فصرف إليهم ، إلا على قول من قال : إنه يصرف إلى ورثة الواقف ملكا لهم . فإنه يصرف عند عدمهم إلى بيت المال ; لأنه بطل الوقف فيه بانقطاعه ، وصار ميراثا لا وارث له ، فكان بيت المال به أولى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					