مسألة [ هل يعمل الاستثناء بطريق المعارضة أو البيان    ] 
تتفرع على ما سبق وتتأصل على الخلاف الآتي في الاستثناء من الإثبات نفي ، وبالعكس ، وهي أن الاستثناء يعمل بطريق المعارضة أو بطريق البيان ، فقال بالثاني ، وهو عندهم بيان معنوي ، أي أن المستثنى لم يكن مرادا للمتكلم من الأصل ، لأنه منع دخوله تحت المستثنى منه ، وإما بالنظر إلى صورة اللفظ فهو استخراج صوري . ونسبوا لأصحابنا الأول ، وهو أنه يمنع الحكم بطريق المعارضة ، مثل دليل الخصوص . والمراد بالمعارضة أن يثبت حكما مخالفا لحكم صدر الكلام ، فإن صدر الكلام يدل على إرادة المجموع ، وآخره يدل على إرادة إخراج البعض عن الإرادة ، فتعارضا في ذلك البعض ، فتعين خروجه عن المراد دفعا للتعارض ، كتخصيص العام ، وعلى مذهب الآخرين هو متكلم بالباقي في صدر الكلام بعد المستثنى . 
قلت    : هو نظير الخلاف في أن النسخ رفع أو بيان ، وقال صاحب  [ ص: 400 ] المحيط " : الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا ، أي تكلم بالمستثنى منه بعد صرف الكلام عن المستثنى . 
وقال شمس الأئمة    : لو قال : عبيدي أحرار إلا سالما أو غانما  ، لا يعتق واحد منهما ، وإن كان المستثنى أحدهما ، لأنه فيه ، فثبت حكم الشك فيهما ، ويصير الكلام عبارة عما وراء المستثنى بطريق أنه لا بعض ويصح الاستثناء وإن كان المستثنى مجهولا ، لأن الكلام لم يتناول المستثنى أصلا ، فلا أثر للجهالة فيه . وفي " المغني "  ابن قدامة    : الاستثناء إنما هو مبين أن المستثنى غير مراد بالكلام ، وهو أن يمنع أن يدخل فيه ما لولاه لدخل ، وقوله تعالى : { إلا خمسين عاما    } عبارة عن تسعمائة وخمسين سنة ، فخرج بالخمسين المستثنى ، وقوله تعالى : { إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني    } فقد تبرأ من غير الله لا أنه تبرأ منه أولا ثم رجع عنه . 
وفصل جماعة من الحنفية بين الاستثناء العددي وغيره ، وقالوا في غير العددي : إنه إخراج قبل الحكم ، ثم حكمه على الباقي ، وقالوا في العددي : لا إخراج ، حتى قالوا في إن كان لي إلا مائة وكذا ، ولم يملك إلا خمسين لا يحنث 
قلت    : وما نسبوه لأصحابنا ممنوع ، وقد قال النووي  في " الروضة " : المختار أن الاستثناء بيان ما لم يرد بأول الكلام ، لا أنه إبطال ما ثبت ، ولهذا لو قال : له علي عشرة إلا خمسة أو ستة ، يلزمه أربعة ، لأن الدرهم الزائد مشكوك فيه ، فصار كقوله : علي خمسة أو ستة ، فإنه يلزمه خمسة . واحتمل الرافعي  أنه يلزمه خمسة ، لأنه أثبت العشرة ،  [ ص: 401 ] والشك في المنفي . قلت    : ويؤيده قول أصحابنا أنه يشترط في الاستثناء أن ينويه من أول الكلام ، فكيف يكون مرادا بالكلام الأول وهو يريد أن لا يكون ؟ وكذا قال صاحب الميزان من الحنفية : لو لم يكن الاستثناء بيانا لأدى إلى النسخ في كلام واحد ، فيؤدي إلى التناقض في كلام الله تعالى : قال : ومسائل  الشافعي  كلها تخرج على البيان ، ولا يمكن حمله على التعارض ، لأن التعارض إنما يكون بين المثلين ، ولا مماثلة بين المستثنى منه والمستثنى ، لأن المستثنى منه مستقل ، والمستثنى ناقص ، ولهذا لا يبتدأ به . 
ويدل على بطلان دعوى الإخراج قوله تعالى في حق نوح    : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما    } إذ لا يتصور أن يكون لبث فيهم ألف سنة ، ثم يخرج الخمسين من الألف بعد الإخبار بلبثه الألف بكماله ، فلم يبق إلا أنه لولا الاستثناء لكان صالحا لدخول الخمسين تحت الألف ، وإنما أخرجه من صلاحية الاستثناء ، ولا يجوز أن يقال : إنه مريد للألف ، ثم أخرجه ، لأن الله علم أنه ما لبث الخمسين ، فكيف يريدها ؟ 
ومثله قول القاضي عبد الوهاب    : وضع الاستثناء أن يخرج ما لولاه لانتظمه ، وذكر الإخراج باعتبار الصلاحية في اللفظ ، وبهذا كله تبطل دعوى القرافي  أن الاستثناء لا إخراج فيه أصلا ، لأن الإخراج حقيقة فيمن اتصف بالدخول ، ولا يقال : خرج زيد من الدار إذا لم يكن دخلها إلا مجازا وقد بينا المراد بالإخراج من الصلاحية للدخول ، لولا الاستثناء ، وهو كالتخصيص بالمقارن يوجب الحكم فيما وراء الخصوص من الأصل ، ولا يتناول المخصوص . وصار كما لو قال : اقتلوا المشركين المحاربين ، فلم يكن غير المحاربين مرادا من المشركين من الابتداء .  [ ص: 402 ] ونظير هذا الخلاف في الاستثناء خلاف أصحابنا فيما لو قال : أنت طالق ثلاثا ، هل يقع الثلاث عند الفراغ من قوله ثلاثة ، أو نقول : إذا فرغ من قوله ثلاثا تبينا وقوع الثلاث بقوله : أنت طالق  ؟ والمذهب الأول وفائدته : إذا قال : أنت طالق فماتت ، ثم قال : ثلاثا ، فعلى الأول لا يقع شيء . 
				
						
						
