الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
قال الأحنف بن قيس كنت في نفر من قريش فمر أبو ذر فقال بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي في أقفائهم يخرج من جباههم .

وفي رواية أنه يوضع على حلمة ثدي أحدهم فيخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل

التالي السابق


(وقال الأحنف بن قيس) ابن معاوية بن حصين التميمي السعدي أبو بحر البصري، والأحنف لقب واسمه الضحاك، وقيل: صخر، قال العجلي: تابعي ثقة، وكان أعور أحنف، وذميما قصيرا، كوسجا له بيضة واحدة، وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا قليل الحديث، مات سنة اثنين وسبعين بالكوفة، روى له الجماعة، وهو الذي يضرب بحلمه المثل، وكان سيد قومه، وهذا القول فيما رواه مسلم من طريقه قال: (كنت في نفر من قريش فمر بنا أبو ذر) جندب بن جنادة الغفاري -رضي الله عنه- (فقال) ، ولفظ مسلم: فمر أبو ذر، وهو يقول: (بشر الكانزين) -أي: للذهب والفضة- (بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي من أقفائهم) ، وهو جمع القفا، (يخرج من جباههم) قال: ثم تنحى فقعد، قال: قلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر، قال: فقمت إليه فقلت: ما شيء سمعتك تقول قبل؟ قال: ما قلت إلا شيئا قد سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهذا اللفظ لم يخرجه البخاري (وفي رواية أخرى) لحديث الأحنف (أنه يوضع) الرضف (على حلمة ثدي أحدهم) الحلمة محركة ما نشز من الثدي (يخرج من) نغض (كتفيه ويوضع على نغض كتفيه) ، وهو بضم النون وسكون الغين وآخره ضاد معجمتين، هو العظم الرقيق على طرف الكتف أو هو أعلاه، ويسمى الغضروف أيضا (حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل) ذلك الرضف، أي: يتحرك ويضطرب. هذا لفظ البخاري في كتاب الزكاة قال: حدثنا عباس، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا الجريري، عن أبي العلاء، عن الأحنف بن قيس قال: جلست ح وحدثني إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا الجريري، حدثنا أبو العلاء بن الشخير أن الأحنف بن قيس حدثهم، قال: جلست إلى ملأ [ ص: 10 ] من قريش، فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة، حتى قام عليهم فسلم، ثم قال: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع الرضف على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل، ثم ولى فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه أنا، ولا أدري من هو، فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت، قال: إنهم لا يعقلون شيئا، قال لي خليلي: قلت: من خليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم، يا أبا ذر أتبصر أحدا؟ قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار، وأنا أرى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرسلني في حاجة له، قلت: نعم، قال: ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير، وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله. وأخرجه مسلم في الزكاة إلا أنه قال: إذ جاء رجل أحسن الثياب، أحسن الجسد، أحسن الوجه.. والباقي نحوه .

وأخرج أبو نعيم في الحلية من طريق سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد عمن سمع أبا ذر يقول، وقد قال له رجل: ما لك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك؟! قال: إني أنهاهم عن الكنوز!

وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن عبد الله بن الأقنع الباهلي، عن الأحنف بن قيس، قال: كنت جالسا في مسجد المدينة، فأقبل رجل لا تراه حلقة إلا فروا منه، حتى انتهى إلى الحلقة التي كنت فيها، فثبت وفروا، فقلت: من أنت؟ قال: أبو ذر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت: ما نفر الناس منك؟! قال: إني أنهاهم عن الكنوز!

وقال الشيخ الأكبر -قدس سره- في كتاب الشريعة: واعلم أن الله تعالى لما قال: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم كان ذلك قبل الزكاة التي فرض الله على عباده، فلما فرض الله الزكاة على عباده المؤمنين في أموالهم وطهر نفوسهم إذا أعطوها من أن يطلق عليهم اسم البخل لمنعهم ما أوجب عليهم، ثم فسر العذاب الأليم بما هو الحال عليه، فقال: يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وذلك أن السائل إذا رآه صاحب المال مقبلا عليه انتصبت أسارير وجهه، وهي الخطوط التي في جبهة الإنسان، وقطب، وهو المعتاد في الإنسان إذا رأى ما يكره رؤيته، فكوى الله بذلك المال جبهته، فإن السائل يعرف ذلك في وجهه فيجد في قلبه ألما لذلك، ثم قال: وجنوبهم وذلك أنه إذا رأى السائل قد أقبل تمعر وجهه، وأعطاه جانبه، وتغافل عنه عسى يرجع عنه، ولا يواجهه بالسؤال، فكوى الله جنبه، فإذا علم من السائل أنه يقصده ولا بد أعطاه ظهره وسارع كأنه لم يره، وكأنه يريد يفعل شغلا عرض له ولا يخفى ذلك على الله، فيرجع السائل محروما فيكوي الله ظهره؛ فلذا خص الله الجباه والجنوب والظهور بالكي، والله أعلم بما أراده .

وقد ألم بهذا الولي العراقي في شرح التقريب، فنقل عن بعضهم في هذه الثلاثة أن مانع الزكاة إذا جاءه المسكين أعرض بوجهه، وإن عاد له تحول عنه فيصير إليه جنبه، فإن عاد ولاه ظهره .

وقال بعضهم: أكلوا بتلك الأموال في بطونهم فصار المأكول في جنوبهم، واكتسبوها على ظهورهم، ويحتمل أنهم أحرموا المسكين بمنعه حقه منها أن يأكل بها في جنبه أو يكتسي بها على ظهره، ويحتمل أن يكون العذاب شاملا لجميع البدن، وإنما نبه بهذه المذكورات على ما عداها، والله أعلم .




الخدمات العلمية