الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وإذا لم يكن المخرج من جيد المال فهو من سوء الأدب إذ قد يمسك الجيد لنفسه أو لعبده أو لأهله فيكون قد آثر على الله عز وجل غيره ولو فعل هذا بضيفه وقدم إليه أردأ طعام في بيته لأوغر بذلك صدره هذا إن كان نظره إلى الله عز وجل ، وإن كان نظره إلى نفسه وثوابه في الآخرة فليس بعاقل من يؤثر غيره على نفسه وليس له من ماله إلا ما تصدق به فأبقى أو أكل فأفنى والذي يأكله قضاء وطر في الحال فليس من العقل قصر النظر على العاجلة وترك الادخار وقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه أي : لا تأخذوه إلا مع كراهية وحياء ، وهو معنى الإغماض ، فلا تؤثروا به ربكم .

وفي الخبر : سبق درهم مائة ألف درهم .

وذلك بأن يخرجه الإنسان وهو من أحل ماله وأجوده فيصدر ذلك عن الرضا والفرح بالبذل ، وقد يخرج مائة ألف درهم مما يكره من ماله فيدل ذلك على أنه ليس يؤثر الله عز وجل بشيء مما يحبه .

التالي السابق


وأخرج البغوي والماوردي وابن قانع والطبراني والبيهقي وتمام وابن عساكر عن ركب المصري رضي الله عنه رفعه: طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في نفسه في غير مسكنة، وأنفق من مال جمعه في غير معصية، وخالط أهل العفة والحكمة، ورحم أهل الذل والمسكنة. طوبى لمن ذل نفسه، وطاب كسبه، وحسنت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق المال من فضله، وأمسك الفضل من قوله. (وإذا لم يكن المخرج من جيد المال) وطيبه (فذاك) أي: إخراجه هكذا (من سوء الأدب) مع الله تعالى، (وإذ قد يمسك الجيد لنفسه أو لعبده) مثله (أو أهله فيكون) ممن (قد آثر على الله عز وجل غيره) وإن فعل أسوأ من هذا ولا يقوم سوء أدب واحد في معاملة بجميع المعاملات، (ولو) فرض أنه (فعل هذا بضيفه) الذي نزل به (وقدم إليه أردأ طعام) وجد (في بيته لأوغر بذلك صدره) أي: ملأه حرارة وحقدا وعداوة (هذا إن كان نظره إلى الله عز وجل، وإن كان نظره إلى نفسه وثوابه في الآخرة) فيما عند الله عز وجل (فليس بعاقل من يؤثر على نفسه) وقد تحقق أنه (ليس له من ماله إلا ما تصدق) به على الفقير (فأمضى أو أكل فأفنى) ، وهذا معناه في بعض الأخبار: ابن آدم، ليس لك من مالك إلا ما قدمت فأبقيت أو أكلت فأفنيت. وهذا ظاهر لأمريه فيه، فإن الذي يتركه وارثه إما لوارث أو لحادث، وهو مذموم على كل حال، (والذي يأكله قضاء وطر) أي: نيل حاجة في الحال (وليس من العقل قصور النظر عن العاجلة) التي هي الدنيا (وترك الادخار إلى) دار (الآخرة) ، كيف (وقد قال الله تعالى) في كتابه العزيز: ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ) أي: من التجارة الحلال، كما أخرجه سعيد [ ص: 127 ] ابن منصور والطبري وابن أبي حاتم عن مجاهد ( ومما أخرجنا لكم من الأرض ) أي: من طيبات ما أخرجنا من الحبوب والثمار والمعادن، بحذف المضاف لتقدم ذكره .

وأخرج ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال في قوله تعالى: أنفقوا من طيبات ما كسبتم أي: من الذهب والفضة ومما أخرجنا لكم من الأرض يعني من الحب والثمر، كل شيء عليه زكاة، (ولا تيمموا) أي: لا تعمدوا، واعلموا أن الله غني عن صدقاتكم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب (الخبيث) أي: الحرام. رواه ابن جرير عن ابن زيد وأخرج الفرياني وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن عبد الله بن مغفل في قوله: ولا تيمموا الخبيث قال: كسب المسلم لا يكون خبيثا، ولكن لا يتصدق بالحشف والدرهم الزيف وما لا خير فيه. ( منه تنفقون ) أي: تتصدقون.

وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: كان الرجل يتصدق برذالة ماله فنزلت: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ، وأخرج أيضا عن عطاء قال: علق إنسان حشفا في الأقناء التي تعلق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من علق هذا؟ فنزلت: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون وأخرج الحاكم عن عوف بن مالك قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده عصا، فإذا أقناء معلقة في المسجد، قنو منها حشف، فطفا في ذلك القنو، قال: ما يضر صاحبه لو تصدق بأطيب من هذا، إن صاحب هذه ليأكل الحشف يوم القيامة.

وقال صاحب القوت: وينبغي أن يجعل صدقته بأفضل ما يحبه من المال، ومن جيد ما يدخر ويقتني وتستأثر به النفوس، فيؤثر مولاه به كما أمره، وضرب المثل بالعبيد ( ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه أي: لا) تقصدوا الرديء فتجعلوه لله تعالى، ولو أعطيتم ذلك لا (تأخذوه إلا) بإغماض أي: (مع كراهية وحياء، وهو معنى الإغماض، فلا) تجعلوا لله دون ما تستجيدونه لأنفسكم ولا تقصدوا الرديء و (تؤثروا به ربكم) .

وأخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، ثم ساقوا الحديث وفيه قال: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذ إلا على إغماض وحياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده.

وأخرج ابن جرير عن عبيدة السلماني عن علي رضي الله عنه في قوله: ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه يقول: ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق ابن عباس عن علي في قوله: ولستم بآخذيه قال: لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه؛ فذلك قوله: إلا أن تغمضوا فيه فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم، وخفي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها؟ وهو قوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .

وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال: لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه لم يأخذه إلا أنه قد أغمض عن حقه (وفي الخبر: سبق درهم مائة ألف درهم) .

قال العراقي: رواه النسائي وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة ا ه .

قلت: وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة قال: الدرهم طيب أحب إلي من مائة ألف، وقرأ: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم الآية. وبه يظهر مناسبة إيراد هذا الخبر بعد هذه الآية، ثم إن هذه الجملة هكذا أوردها صاحب القوت واقتصر عليها وقلده المصنف، ثم فسر ذلك بقوله: (وذلك بأن يخرجه الإنسان) أي: الدرهم (وهو من أحل ماله وأجوده فيصدر ذلك عن الرضا) وطيب النفس (والفرح بالبذل، وقد يخرج مائة ألف) درهم (مما يكره من ماله فيصدر ذلك على أنه ليس يؤثر الله عز وجل بشيء مما يحبه) ، وهذا المعنى صحيح موافق لسياق صاحب القوت دل عليه خبر أبي هريرة السابق، وأيده قوله الذي أخرجه ابن المنذر وقد روى الخبر المذكور بزيادة جملة أخرى فيها بيان لمعنى الخبر؛ وذلك فيما رواه النسائي عن أبي ذر والنسائي أيضا وابن حبان والحاكم في الزكاة، وقال: على شرط مسلم عن أبي هريرة رفعاه: سبق درهم مائة ألف، قالوا: يا رسول الله، كيف يسبق درهم مائة ألف؟! قال: رجل له درهمان أخذ أحدهما [ ص: 128 ] فتصدق به، ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف فتصدق بها؛ فظاهر هذا السياق دال على أن المراد بذلك الإخبار بأن الصدقة من القليل أنفع وأفضل منها من الكثير، وإليه جنح المناوي في شرحه على الجامع، ناقلا ذلك عن صاحب المطاع، ولا يخفى أن هذا الذي فهمه من الخبر غير الذي قرره المصنف وقرره بعضهم بوجه آخر، فقال: إذا أخرج الرجل من ماله مائة ألف درهم وتصدق بها غير منشرح بذلك صدره .

وأخرج آخر درهما واحدا من درهمين طيبة بها نفسه؛ صار صاحب الدرهم الواحد أفضل من صاحب مائة ألف. وهذا نقل عن اليافعي، وهو أيضا موافق لسياق الجماعة، وعندي أنه لا تضاد في المعنيين الأولين؛ فإن الرجل إذا أخرج درهما واحدا وكان له درهمان، فالغالب أن هذا من كسبه الذي ليس في معصية؛ فهو من أطيب ما عنده، والذي عنده مال كثير فالغالب عليه الشبهة؛ لأنه اكتسبه من جهات مختلفة، فلا يخلو من طريانها عليه، فإذا أخرج منه فقد أخرج ما فيه من شبهة؛ لأنهم قالوا: الحلال ضيق قليل؛ فتأمل .




الخدمات العلمية