الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الصنف السادس : الغارمون .

والغارم هو الذي استقرض في طاعة أو مباح وهو فقير ، فإن استقرض في معصية فلا يعطى إلا إذا تاب وإن كان غنيا لم يقض دينه إلا إذا كان قد استقرض لمصلحة أو إطفاء فتنة .

التالي السابق


ثم قال المصنف رحمه الله: (الصنف السادس: الغارمون، والغارم هو الذي) غرم من غرمت الدية والكفالة ونحو ذلك، إذا أديته بعد ما لزمك غرما ومغرما وغرامة، ويتعدى بالهمزة والتضعيف، والديون ثلاثة أضرب: الأول: دين لزمه لمصلحة نفسه فيعطى من الزكاة ما يقضى به بشروط: أحدها: أن يكون (استقرض) لنفقة (في طاعة أو مباح) فيعطى منها، (وهو فقير، فإن استقرض في معصية) كالخمر والإسراف في النفقة (فلا يعطى) قبل التوبة على الصحيح، (إلا إذا تاب) فإنه يعطى، وهو أصح الوجهين عند أبي خلف السلمي والروياني، وقطع به في الإفصاح، وهو قول إسحق، وقال النووي: وهو الأصح، وممن صححه غير المذكورين المحاملي في المقنع وصاحب التنبيه، وقطع به الجرجاني في التحرير، والوجه الثاني: لا يعطى، وصححه صاحب الشامل وصاحب التهذيب، وبه قال ابن أبي هريرة، وبه جزم الرافعي في المحرر، ولم يتعرضوا هنا لاستبراء حاله، ومضى مدة بعد توبته يظهر فيها صلاح الحال، إلا أن الروياني قال: يعطى على أحد الوجهين إذا غلب على الظن صدقه في توبته، فيمكن أن يحمل عليه .

الشرط الثاني: أن يكون به حاجة إلى قضائه منها، فلو وجد ما يقضيه من نقد أو عرض، فقولان: القديم: يعطى، والأظهر: المنع، فلو لم يملك شيئا ولكن يقدر على قضائه بالاكتساب، [ ص: 149 ] وجهان؛ أصحهما: يعطى، وأما معنى الحاجة المذكورة فعبارة الأكثرين تقتضي كونه فقيرا لا يملك شيئا، وربما صرحوا به، وفي بعض شروح المفتاح أنه لا يعتبر المسكن والملبس والفراش والآنية، وكذا الخادم والمركوب إن اقتضاهما حاله، بل يقضى دينه وإن ملكها، وقال بعض المتأخرين: لا يعتبر الفقر والمسكنة هنا، بل لو ملك قدر كفايته وكان لو قضى دينه لنقص ماله عن كفايته ترك معه ما يكفيه، وأعطي ما يقضي به الباقي، وهذا أقرب. الشرط الثالث: أن يكون حالا، فإن كان مؤجلا، ففي إعطائه أوجه، ثالثها: إن كان الأجل يحل تلك السنة أعطي وإلا فلا يعطى من صدقة تلك السنة، قال النووي: والأصح: لا يعطى، وبه قطع في البيان. الضرب الثاني: هو ما أشار إليه المصنف، فقال: (وإن كان) أي: الغارم (غنيا) بعقار قطعا، وكذا بنقد على الصحيح، والغني بالعروض كالغني بالعقار على المذهب، وقيل: كالنقد واستدان مالا (لم يقض دينه) من سهم الغارمين، (إلا إذا كان قد استقرض لمصلحة) أي: لإصلاح ذات البين مثل أن يخاف فتنة قبيلتين أو شخصين فيستدين طلبا للصلاح (وإطفاء فتنة) وإسكان ثائرة، فينظر إن كان ذلك في دم تنازع فيه قبيلتان ولم يظهر القاتل فتحمل الدية، يقضى دينه من سهم الغارمين فقيرا أو غنيا، ولو تحمل فيه مالا فتلف أعطي مع الغنى على الأصح، وحاصل ما فهمت من هذه المسألة أن الغرم على ضربين: ضرب غرم لإصلاح ذات بين، وهو ضربان: ضرب غرم في حمل دية فيعطى مع الفقر والغنى، وضرب غرم لقطع ثائرة ولتسكين فتنة، فإنه يعطى مع الغنى على ظاهر المذهب، وضرب غرم في مصلحة نفسه في غير معصية، فهل يعطى مع الغنى؟ قولان: أحدهما: لا يعطى، ذكره في الأم، والآخر: يعطى. ذكره في القديم، وهذا الذي ذكرته حاصل في الضربين. الضرب الثالث: ما التزمه بضمان، له أربعة أحوال: أحدها: أن يكون الضامن والمضمون عنه معسرين فيعطى الضامن ما يقضى به الدين، الثاني: أن يكونا موسرين فلا يعطى؛ لأنه إذا غرم رجع على الأصل، الثالث: أن يكون المضمون عنه موسرا، أو الضامن معسرا، فإن ضمن بإذنه لم يعط؛ لأنه يرجع، وإلا أعطي على الأصح، الرابع: أن يكون المضمون عنه معسرا والضامن موسرا فيجوز أن يعطى المضمون عنه، وفي الضامن وجهان؛ أصحهما: لا يعطى، وفي هذا الباب فروع لا بأس بإيرادها؛ تكميلا للفائدة الأول، إنما يعطى الغارم عند بقاء الدين، فأما إذا أداه من ماله فلا يعطى؛ لأنه لم يبق غارما، وكذا لو بذل ماله ابتداء لم يعط؛ لأنه ليس غارما .

الثاني قال أبو الفرج السرخسي ما استدانه لعمارة المسجد وقرى الضيف حكمه حكم ما استدانه لمصلحة نفسه، وحكى الروياني عن بعض الأصحاب أنه يعطى لهذا مع الغنى بالعقار، ولا يعطى مع الغنى بالنقد .

قال الروياني: هذا هو الاختيار .

الثالث: يجوز الدفع إلى الغريم بغير إذن صاحب الدين، ولا يجوز إلى صاحب الدين بغير إذن المديون لكن يسقط من الدين قدر المصروف، ويجوز الدفع إليه بإذن المديون، وهو أولى إلا إذا لم يكن وافيا، وأراد المديون أن يتجر فيه .

الرابع: لو أقام بينة أنه غرم وأخذ الزكاة ثم بان كذب الشهود، ففي سقوط الفرض القولان المذكوران فيمن أدى إلى من ظنه فقيرا فبان غنيا. قاله إمام الحرمين.

الخامس: لو دفع إلى رجل وشرط أن يقضيه ذلك عن دينه لم يجزه قطعا، ولا يصح قضاء الدين بها، فلو نويا ذلك ولم يشترط جاز، قال في التهذيب: ولو قال المديون: ادفع إلي من زكاتك حتى أقضيك دينك، ففعل، أجزأه عن الزكاة، ولا يلزم المديون دفعه إليه عن دينه، ولو قال صاحب الدين: اقض ما عليك لأرده عليك من زكاتي، ففعل، صح القضاء ولا يلزمه رده .

السادس: لو مات رجل وعليه دين ولا وفاء له، ففي قضائه من سهم الغارمين وجهان، حكاهما صاحب البيان ولم يبين الأصح، والأصح الأشهر: لا يقضى منه .

السابع: لو ضمن دية مقتول عن قاتل لا يعرف أعطي مع الفقر والغنى كما سبق، وإن ضمن عن قاتل معروف لم يعط مع الغنى. حكاه صاحب البيان عن الصميري.



(فصل)

قال أصحابنا: الغارم من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه، أو كان له مال على الناس لا يمكنه أخذه، ولا يدفع إليه إلا مع الفقر، وبه قال مالك وأحمد: ولهم أن الزكاة لا تحل لغني، والغريم يطلق على [ ص: 150 ] المديون وعلى صاحب الدين، وأصل الغرامة في اللغة اللزوم، ومن فروع هذه المسألة: لو دفع إلى فقيرة لها مهر على زوجها يبلغ نصابا، وهو موسر بحيث لو طلبت أعطاها، لا يجوز، وإن كان بحيث لا يغطي لو طلبت جاز، ولا يأخذ الغارم المتحمل عندنا إذا لم يفضل له بعد ما ضمنه قدر نصاب، وفي مختصر القدوري: الغارم هو المديون، وتبعه صاحب الكنز وغيره، وقال صاحب الهداية: هو المديون الفقير، وهذا القيد لا حاجة إليه؛ لأن الفقر شرط في الأصناف كلها إلا العامل، وأما ابن السبيل فإنه فقير يد وإن كان له مال في وطنه أو في غيره، وفي الفتاوى الظهيرية: والدفع إلى من عليه الدين أولى من الدفع إلى الفقير .



(فصل) في اعتبار الغارمين

الغارمون هم الذين أقرضوا الله قرضا حسنا عن أمره، وهو قوله تعالى: وأقرضوا الله قرضا حسنا عطفا على أمرين واجبين، وهو قوله تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ومن الناس من أقرض الله قرض اختيار، وهو الذي لم يبلغه الأمر، وبلغه قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيأخذ الزكاة الغارم الأول الذي أعطي على الوجوب الصدقة بحكم الوجوب، أي: إنها تجب له ويأخذها الثاني باختيار المصدق؛ حيث ميزه دون غيره، ولا سيما في مذهب من يرى في عدد هؤلاء الأصناف أنه حصر المصرف في هؤلاء المذكورين، أي: لا يجوز أن يعطى لغيرهم، فإذا أعطيت لصنف منهم دون صنف فقد برئت الذمة، وهي مسألة خلاف، فهذا المقرض بآية: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا لا يأخذها بحكم الوجوب، والمقرض بآية الأمر يأخذها بحكم الوجوب؛ لأنه أدى واجبا، فجزاؤه واجب وكان حقا علينا نصر المؤمنين فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون وهذه كلها واجبات فأوجب الرحمة لهم بلا شك .




الخدمات العلمية