الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
إذ فيها ليلة القدر

التالي السابق


وفيه تأكده في العشر الأواخر من رمضان (إذ فيها ليلة القدر) فإنها عند الشافعي وآخرين منحصرة في العشر الأخير وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال : "اعتكفنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- العشر الأوسط من رمضان فخرجنا صبيحة عشرين فخطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صبيحة عشرين فقال : إني أريت ليلة القدر وإني نسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر في وتر فإني أريت أني أسجد في ماء وطين ومن كان اعتكف مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليرجع فرجع الناس إلى المسجد وما نرى في السماء قزعة فجاءت سحابة فمطرت وأقيمت الصلاة وسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الطين والماء حتى رأيت الطين في أرنبته وجبهته " وفي رواية من صبح إحدى وعشرين وفي لفظ لمسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط ثم أتيت فقيل لي : إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف فاعتكف الناس معه . . الحديث ، وليلة القدر بإسكان الدال وفتحها سميت بذلك لعظم قدرها لما فيها من الفضائل أي : ذات القدر العظيم أو لأن الأشياء تقدر فيها وقد جوز المفسرون في الآية إرادة الشرف والتقدير مع كونه لم يقرأ إلا بالإسكان وجزم الهروي وابن الأثير في تفسيرهما بالتقدير فقالا وهي الليلة التي تقدر فيها الأرزاق وتقضى وصححه النووي في شرح المهذب فقال سميت ليلة القدر أي ليلة الحكم والفصل هذا هو الصحيح المشهور وحكاه في شرح مسلم عن العلماء والمراد بالعشر الأواخر هي الليالي وكان يعتكف الأيام معها أيضا فلم يمكن أن يقتصر على اعتكاف الليالي وإنما اقتصر على ذكرها على عادة العرب في التاريخ بها وهذا يدل على دخوله محل الاعتكاف قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين وإلا لم يكن اعتكف العشر بكمالها وهذا هو المعتبر عند الجمهور لمن أراد اعتكاف عشر أو شهر وبه قال الأئمة الأربعة وحكاه الترمذي عن الثوري وقال آخرون بل يبدأ الاعتكاف من أول النهار وهو قول الأوزاعي وأبي ثور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والليث بن سعد في أحد قوليه وحكاه الترمذي عن أحمد وحكاه النووي في شرح مسلم عن الثوري وصححه ابن العربي وقال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال به إلا الأوزاعي والليث وقال به طائفة من التابعين . أهـ .

واحتجوا بحديث عائشة في الصحيحين : "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه " وتأوله الجمهور على أنه دخل المعتكف [ ص: 233 ] وانقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف بل كان من قبل المغرب معتكفا لابثا في المسجد فلما صلى الصبح انفرد ومن أحاديث الاعتكاف ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من طريق عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله -عز وجل- ثم اعتكف أزواجه من بعده وأخرجه النسائي من طريق عبد الرزاق هكذا بدون الجملة الأخيرة وفي قولها : حتى قبضه الله -عز وجل- استمرار هذا الحكم وعدم نسخه وأكدت ذلك بقولها ثم اعتكف أزواجه من بعده فأشارت إلى استمرار حكمه حتى في حق النساء فكن أمهات المؤمنين يعتكفن بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير نكير وإن كان هو في حياته قد أنكر عليهن الاعتكاف بعد إذنه لبعضهن كما هو في الحديث الصحيح فذاك بمعنى آخر وهو كما قيل : خوف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه لو لغيرته عليهن إذ ذهاب المقصود من الاعتكاف بكونهن معه في المعتكف أو لتضييقهن في المسجد بأبنيتهن ، والله أعلم .

ثم لا شك في أن اعتكافه -صلى الله عليه وسلم- كان في مسجده وكذا اعتكاف أزواجه فأخذ منه اختصاص الاعتكاف بالمساجد وأنه لا يجوز في مسجد البيت وهو الموضع المهيأ للصلاة فيه لا في حق الرجل ولا في حق المرأة إذ لو جاز في البيت لفعلوه ولو مرة لما في ملازمة المسجد من المشقة لا سيما في حق النساء وفي الصحيح عن نافع وقد أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وداود والجمهور وقال أبو حنيفة يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وهو قول قديم للشافعي قال ابن قتادة : وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة وحكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة والكوفيين مطلقا أنهم قالوا : لا تعتكف إلا في مسجد بيتها ولا تعتكف في مسجد الجماعة ثم حكي عن أصحاب أبي حنيفة أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها جوزه بعض المالكية والشافعية للرجل أيضا في مسجد بيته .

قلت : الذي في كتب أصحابنا المرأة تعتكف في مسجد بيتها ولو اعتكفت في مسجد الجماعة جاز والأول أفضل ومسجد حيها أفضل لها من المسجد الأعظم وليس لها أن تعتكف في غير موضع صلاتها من بيتها وإن لم يكن فيه مسجد لا يجوز لها الاعتكاف فيه . أهـ .



ثم اختلف الجمهور المشترطون للمسجد العام فقال مالك والشافعي وجمهورهم : يصح الاعتكاف في كل مسجد ، قال أصحاب الشافعي : ويصح في سطح المسجد ورحبته ، وقال أحمد : يختص بمسجد تقام فيه الجماعة الراتبة إلا في حق المرأة فيصح في جميع المساجد ، وقال أبو حنيفة : بمسجد يصلى فيه الصلوات كلها أي : في حق الرجل .

وروى الحسن عن أبي حنيفة أن كل مسجد له إمام ومؤذن معلوم ويصلى فيه الصلوات الخمس بالجماعة ، وقال أبو يوسف : إن الاعتكاف الواجب لا يجوز في غير مسجد الجماعة والنفل يجوز ، قال الزهري وآخرون : يختص بالجامع الذي تقام فيه الجمعة وهو رواية عن مالك ، وقالت طائفة : يختص بالمساجد الثلاثة ، حكي ذلك عن حذيفة بن اليمان وبمعناه ما حكي عن سعيد بن المسيب : "لا اعتكاف إلا في مسجد نبي " ولهذا جعلهما ابن عبد البر قولا واحدا ، وقال عطاء : لا يعتكف إلا في مسجد مكة والمدينة حكاه الخطابي ثم قد استدل بالحديث المذكور أنه لا يشترط لصحة الاعتكاف الصوم وذلك من وجهين :

أحدهما : أنه اعتكف ليلا أيضا مع كونه فيه غير صائم ذكره ابن المنذر .

ثانيهما : أن صومه في شهر رمضان إنما كان للشهر لأن الوقت مستحق له ولم يكن لاعتكاف ذكره المزني والخطابي وبهذا قال الشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه وحكاه الخطابي عن علي وابن مسعود والحسن البصري وقال مالك وأبو حنيفة والجمهور يشترط لصحة الاعتكاف الصوم وروي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وعائشة وروى الدارقطني في حديث عائشة المتقدم من رواية ابن جريج عن الزهري بزيادة وإن السنة للمعتكف فذكر أشياء منها ويؤمر من اعتكف أن يصوم ثم قال الدارقطني بأن قوله وإن السنة إلخ ليس من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه من كلام الزهري ومن أدرجه في الحديث وهم ولكن في سنن أبي داود صريحا أنه من [ ص: 234 ] كلام عائشة أي : فمثله لا يعرف إلا سماعا والمسألة مقررة في كتب الخلاف .




الخدمات العلمية