الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثاني حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان .

وقد قال سفيان الغيبة تفسد الصوم رواه بشر بن الحارث عنه .

وروى ليث عن مجاهد : خصلتان يفسدان الصيام : الغيبة والكذب .

وقال صلى الله عليه وسلم : " إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم " وجاء في الخبر أن : امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهدهما الجوع والعطش من آخر النهار حتى كادتا أن تتلفا فبعثتا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذناه في الإفطار فأرسل إليهما قدحا وقال صلى الله عليه وسلم : " قل لهما قيآ فيه ما أكلتما " فقاءت إحداهما نصفه دما عبيطا ولحما غريضا وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه فعجب الناس من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم هاتان : صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله تعالى عليهما قعدت إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يغتابان الناس فهذا ما أكلتا من لحومهم .

التالي السابق


(الثاني حفظ اللسان عن الهذيان ) وهو الكلام الذي لا فائدة فيه (والكذب) وهو ما لا أصل له (والغيبة) أن يذكر أخاه بما يكره (والنميمة) وهو الكلام على وجه الإفساد بين اثنين (والفحش والجفاء والخصومة والمراء) أي : المجادلة .

(وإلزامه السكوت) عما ذكر (وشغله بذكر الله) قلبا ولسانا (وتلاوة القرآن) غيبا ونظرا ومدارسة وإذا كان بالنظر في المصحف فهو أفضل لأنه عبادة أخرى لاستعماله في القراءة لسانه وعينه (فهذا صوم اللسان) وفي القوت صوم اللسان وحفظه عن الخوض فيما لا يعني جملة مما إن كتب عنه كان عليه وإن حفظ له كان له .

(وقال سفيان) الثوري (الغيبة تفسد الصوم ) أي : تذهب بثوابه (رواه بشر بن الحرث) الحافي (عنه) ولفظ القوت وروى بشر بن الحرث عن سفيان : من اغتاب فسد صومه ، وهكذا رواه صاحب العوارف أيضا وقيل : إن مذهب سفيان إفساد الصوم بالغيبة حقيقة هكذا حكاه المنذري عنه وعن عائشة وذهب الأوزاعي إلى هذا فأوجب عليه القضاء وسائر العلماء على خلافه .

(وروى ليث) هو ابن أبي سليم أبو بكر القرشي مولاهم الكوفي أحد العلماء روى (عن مجاهد) وطبقته ولا نعلمه لقي صحابيا وعنه شعبة وزائدة وجرير وخلف فيه ضعف يسير من سوء حفظه كان ذا صلاة وصيام وعلم كثير وبعضهم يحتج به روى له مسلم والأربعة مات سنة 138 ولفظ القوت وروينا عن الليث عن مجاهد (أنه قال : خصلتان تفسدان الصوم : الغيبة والكذب ) أما أن يحمل على الحقيقة فيكون قوله كقول الأوزاعي وسفيان وإلا فالمراد به ذهاب أجرهما زاد صاحب القوت فقال : ويقال : إن العبد إذا كذب أو اغتاب أو سعى في معصية في ساعة من صومه خرق صومه وإن صوم يوم يلفق له من صيام أيام حتى يتم بها صوم يوم ساعة ساعة وكانوا يقولون : الغيبة تفطر الصائم وقد كانوا يتوضؤون من أذى المسلم وروي عن جماعة في الوضوء مما مست النار لأن أتوضأ من كلمة خبيثة [ ص: 246 ] أحب إلي من أن أتوضأ من طعام طيب (وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم ") أخرجه البخاري والنسائي من طريق مالك وكذا أبو داود وأخرجه مسلم والنسائي من طريق سفيان بن عيينة وأخرجه مسلم من رواية المغيرة الحزامي ثلاثتهم عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يجهل ولا يرفث . . . " والباقي سواء .

وليس في رواية أبي داود قوله : الصيام جنة ، ولا في طريق سفيان وذكر ابن عبد البر في التمهيد الاختلاف على مالك في ذكر قوله : الصيام جنة ، وأنه رواها عنه القعنبي ويحيى وأبو مصعب وجماعة ولم يذكرها ابن بكير وأخرجه الشيخان والنسائي من رواية عطاء بن أبي رباح عن أبي صالح عن أبي هريرة في أثناء حديث وأخرج الترمذي من رواية علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في أثناء حديث : "والصوم جنة من النار وإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل : إني صائم " ، وقال : حديث أبي هريرة حسن صحيح غريب من هذا الوجه ، وفي رواية لمسلم في أثناء حديث : "والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم إني صائم " ، وله أيضا عن أبي هريرة رواية : "إذا أصبح أحدكم يوما صائما . . . " ، والباقي كسياق المصنف ، وفي الحديث فوائد :

الأولى : معنى قوله جنة أي : وقاية وسترة وقد عرفت أنه في رواية الترمذي : جنة من النار ، وكذا رواه النسائي من حديث عائشة وروى النسائي وابن ماجه من حديث عثمان بن أبي العاص هكذا بزيادة : "كجنة أحدكم من القتال " ، وكذا جزم به ابن عبد البر وصاحب المشارق وغيرهما أنه : جنة من النار ، وقال صاحب النهاية أي : تقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات ، وجمع النووي بين المعنيين ، وذكر صاحب الإكمال الاحتمالات الثلاثة فقال : ستر ومانع من الآثام ، أو من النار ، أو من جميع ذلك ، وقال الحافظ العراقي في شرح الترمذي : وإنما كان الصوم جنة من النار لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بالشهوات . أهـ . وسبقه إلى ذلك ابن العربي وفي هذا الكلام تلازم الأمرين وأنه إذا كف نفسه عن الشهوات والآثام في الدنيا كان ذلك سترا له من النار غدا .

الثانية : في سنن النسائي وغيره من حديث أبي عبيدة مرفوعا وموقوفا : "الصوم جنة ما لم يخرقها " ، ورواه الدارمي في مسنده وفيه : بالغيبة ، وبوب عليه : "باب الصائم يغتاب " وكذا أبو داود في "باب الغيبة للصائم " وأشار في الحديث بذلك إلى أنه إذا أتى بالغيبة ونحوها فقد خرق ذلك الساتر له من النار بفعله ففيه تحذير الصائم من الغيبة .

الثالثة : قوله : لا يرفث بالتثليث والضم حكاه صاحب المحكم عن اللحياني والمراد به هنا الفحش في الكلام ويطلق في غير هذا الموضع على الجماع وعلى مقدماته أيضا والجهل مثله أو قريب منه فإن قلت : فإذا كان بمعناه فلم عطف عليه والعطف يقتضي المغايرة ؟ قلت : لما كان الجهل يستعمل بمعنى آخر وهو خلاف العلم والرفث يستعمل بمعنى آخر وهو الجماع ومقدماته وذكره- أريد بالجمع بين اللفظين الدلالة على ما اشتركا في الدلالة عليه وهو فحش الكلام وقال المنذري في حواشيه على السنن لا يجهل أي : لا يقل قول أهل الجهل من رفث الكلام وسفهه ولا يجفوه أحد أو يشتمه يقال جهل عليه إذا جفاه .

الرابعة : أشار بقوله في الرواية الأخرى : إذا كان أحدكم يوما صائما إلا أنه لا فرق في ذلك بين يوم ويوم فالأيام كلها في ذلك سواء فمتى كان صائما نفلا أو فرضا في رمضان أو غيره فليجتنب ما ذكر في الحديث .

الخامسة : قال القاضي عياض معنى قاتله دافعه ونازعه ويكون بمعنى شاتمه ولاعنه وقد جاء القتل بمعنى اللعن وقال ابن عبد البر : المعنى في المقاتلة مقاتلته بلسانه .

السادسة : المفاعلة في قوله : "قاتله " و"شاتمه " لا يمكن أن تكون على ظاهرها في وجود المقاتلة والمشاتمة من الجانبين بأنه مأمور أن يكف نفسه عن ذلك ويقول : إني صائم وإنما المعنى قتله متعرضا لمقاتلته وشتمه متعرضا لمشاتمته والمفاعلة حينئذ موجودة بتأويل وهو إرادة القاتل والشاتم لذلك وذكر بعضهم أن المفاعلة تكون لفعل الواحد كما يقال سافر وعالج الأمر وعافاه الله ومنهم من أول ذلك أيضا وقال : لا تجيء المفاعلة إلا من اثنين إلا بتأويل ولعل قائلا يقول : إن [ ص: 247 ] المفاعلة في هذا الحديث على ظاهرها بأن يكون بدر منه مقابلة الشتم بمثله بمقتضى الطبع فأمر بأن ينزجر عن ذلك ويقول : إني صائم والأول أظهر ويدل على أنه لم يرد حقيقة المفاعلة قوله في الرواية الأخرى : شتمه ، وقوله في رواية الترمذي : وإن جهل على أحدكم جاهل .

السابعة : قوله : "فليقل : إني صائم " ، ذكر فيه العلماء تأويلين : أحدهما : وبه جزم المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة أنه يقول في قلبه لا بلسانه ، والثاني : أن يسمعه صاحبه ليزجره عن نفسه ورجحه النووي في الأذكار وغيرها فقال : إنه أظهر الوجهين ، وقال في شرح المهذب التأويلان حسنان والقول باللسان أقوى ولو جمعهما كان حسنا . أهـ . .

وحكى الروياني في البحر وجها واستحسنه أنه إن كان في رمضان فيقوله بلسانه وإن كان نفلا فبقلبه وادعى ابن العربي أن موضع الخلاف في التطوع وأنه في الفرض يقول ذلك بلسانه قطعا فقال لم يختلف أحد أنه يقول ذلك مصرحا به في صوم الفرض كان رمضان أو قضاءه أو غير ذلك من أنواع الفرض واختلفوا في التطوع فالأصح أنه لا يصرح به وليقل لنفسه إني صائم فكيف أقول الرفث . أهـ . ويدل على القول باللسان قوله في آخر الحديث عند النسائي فيما ذكره القاضي ينهى بذلك عن مراجعة الصائم .

الثامنة : فيه استحباب تكرير هذا القول وهو : "إني صائم " سواء قلنا أنه يقول بلسانه أو بقلبه ليتأكد انزجاره وانزجار من يخاطبه بذلك .

(وجاء في الخبر : أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجهدهما أي أتعبهما الجوع والعطش من آخر النهار حتى كادتا أن تتلفا) أي : تهلكا (فبعثتا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تستأذناه) أي : تطلبان منه الإذن (في الإفطار فأرسل إليهما قدحا وقال للرسول : "قل لهما قيآ فيه ما أكلتما " فقاءت إحداهما نصفه دما عبيطا) أي : خالصا (ولحما غريضا) أي : طريا (وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه) أي : القدح (فعجب الناس من ذلك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : هاتان) المرأتان (صامتا عما أحل الله لهما) أي : الطعام والشراب (وأفطرتا على ما حرم الله عليهما) ثم بين ذلك بقوله : (قعدت إحداهما إلى جنب الأخرى فجعلتا تغتابان الناس فهذا ما أكلتا من لحومهم) هكذا أورده صاحب القوت والعوارف .

وقال العراقي : رواه أحمد من حديث عبيد مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسند فيه مجهول .




الخدمات العلمية