الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
السادس قتل صيد البر أعني ما يؤكل أو هو متولد من الحلال ، والحرام فإن قتل صيدا فعليه مثله من النعم يراعى فيه التقارب في الخلقة وصيد البحر حلال ، ولا جزاء فيه .

التالي السابق


(السادس) من المحظورات (قتل صيد البر ) لقوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ولا يختص تحريمه بالإحرام ، بل له سبب آخر ، وهو كونه في الحرم ، ولما اشترك السببان فيما يقتضيانه من التحريم ، والجزاء ، ولذا قال أصحابنا : المراد بجناية الإحرام ما تكون حرمته بسبب الإحرام ، أو الحرم ، ثم قال المصنف : (أعني ما يؤكل) إذا كان وحشيا ، ولا فرق في وجوب الجزاء بين أن يكون الصيد مملوكا لإنسان ، أو مباحا ؛ نعم ، يجب في المملوك مع الجزاء ما بين قيمته حيا ، ومذبوحا بحق الملك ، وعن المزني أنه لا جزاء في الصيد المملوك ، وما ليس بمأكول من الطيور ، والدواب صنفان ما ليس له أصل مأكول ، وما أحد أصليه مأكول . أما الصنف الأول ، فلا يحرم التعرض له بالإحرام ، ولو قتله المحرم يلزمه الجزاء ، وبه قال أحمد ، وقال أبو حنيفة : يجب الجزاء بقتل غير المأكول من الصيد إلا الذئب ، والفواسق الخمس ، وقال مالك : ما لا يبتدئ بالإيذاء يجب الجزاء فيه كالصقر ، والبازي ، ثم الحيوانات الداخلة في هذا الصنف على أضرب منها ما يستحب قتلها للمحرم ، وغيره ، وهي المؤذيات بطبعها والفواسق الخمس ، وفي معناها الحية ، والذئب ، والأسد ، والنمر ، والدب ، والنسر ، والعقاب ، والبرغوث ، والبق ، والزنبور ، ولو ظهر العمل على بدن المحرم ، أو ثيابه لم يكن له تنحيته ، ولو قتله لم يلزمه شيء ، وللصئبان حكم القمل ، ويكره أن يفلي رأسه ، ولحيته ، فإن فعل ، فأخرج منها قملة قتلها تصدق ، ولو بلقمة ؛ نص عليه ، وهو عند الأكثرين محمول على الاستحباب ، ومنها الحيوانات التي فيها منفعة ، ومضرة كالفهد ، والصقر ، والبازي ، فلا يستحب قتلها لما يتوقع من المنفعة ، ولا يكره لما يخاف من المضرة ، ومنها التي لا تظهر فيها منفعة ، ولا مضرة كالخنافس ، والجعلانات ، والسرطان ، والرخمة ، والكلب الذي ليس بعقور ، فيكره قتلها . قال النووي : أي كراهة تنزيه ، وفي كلام بعضهم ما يقتضي التحريم .

ولا يجوز قتل النمل ، والنحل ، والخطاف ، والضفدع لورود النهي عن قتلها ، وفي وجوب الفداء بقتل الهدهد ، والصرد خلاف مبني على الخلاف في أكلها .

والصنف الثاني : ما أحد أصليه مأكول كالمتولد بين الذئب ، والضبع ، وبين حمار الوحش ، وحمار الأهل ؛ فيحرم التعرض له ، ويجب الجزاء فيه احتياطا كما يحرم أكله احتياطا ، وإليه أشار المصنف (أو ما هو متولد من الحلال ، والحرام) ، وأما الحيوانات الإنسية كالنعم ، والخيل ، والدجاج يجوز للمحرم ذبحها ولا جزاء عليه ، وأما [ ص: 323 ] ما يتولد من الوحشي ، والإنسي كالمتولد من اليعقوب ، والدجاجة ، أو الضبع ، والشاة فيجب في ذبحه الجزاء احتياطا (فإن قتل صيدا فعليه مثله من النعم يراعى فيه التقارب في الخلقة) اعلم أن الصيد على قسمين : مثلي هو ما له مثل من النعم ، وغير مثلي . أما الأول فجزاؤه على التخيير ، والتعديل ؛ قال الله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم إلى قوله : صياما ثم إن المثلي ليس معتبرا على التحقيق إنما هو معتبر على التقريب ، وليس معتبرا في القيمة ، بل في الصورة ، والخلقة ؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - حكموا في النوع الواحد من الصيد النوع الواحد من النعم مع اختلاف البلاد ، وتقارب الأزمان ، واختلاف القيم بحسب اختلافهما ، فعلم أنهم اعتبروا الخلقة ، والصورة ، فما ورد فيه نص ، فهو متبع ، وكذلك كل ما حكم فيه عدلان من الصحابة ، والتابعين ، أو من أهل عصر آخر من النعم أنه مثل الصيد المقتول يتبع حكمهم ، ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم قال الله تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم ، وقد حكما ، وعن مالك لا بد من تحكيم عدلين من أهل العصر ، وما ليس بمثلي كالعصافير ، وغيرها من الطيور ففيه قيمته ، وفيه تفصيل يراجع في فروع المذهب .

(وصيد البحر حلال ، ولا جزاء فيه ) لقوله تعالى : أحل لكم صيد البحر الآية . قال الأصحاب : وصيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في البحر ، أما ما يعيش في البر ، والبحر ، فهو كالبري ، والطيور المائية التي تغوص في الماء ، وتخرج من صيد البر لأنها لو تركت في الماء هلكت ، والجراد من صيد البر ، ويجب الجزاء بقتله ، وبه قال ابن عمر ، وابن عباس ، وحكى الموفق بن طاهر قولا غريبا أنه من صيود البحر لأنه يتولد من روث السمك ، والله أعلم .



(فصل)

على تحريم صيد البر اتفق عامة العلماء ، وهو اتفاق أهل الله أيضا في اعتباره ، ومعناه قال بعضهم الزاهد صيد الحق من الدنيا ، والعارف صيد الحق من الجنة ، فالحلق صيد للحق من نفوسهم برا وبحرا ، فاعلم أن الحق تعالى نصب حبالات لصيد النفوس الشاردة مما خلقت له من عبادته ، ثم خدعهم بالحب الذي جعل لهم في تلك الحبالات ، أو الطعوم ، أو ذوات الأرواح المشتهية لهم في الحياة جعلها مقيدة في الحبالات من حيث لا يشعرون ، فمن الصيد من أوقعه في الحبالة رؤية الجنس طمعا في اللحوق بهم فصار في قبضة الصائد فقيده ، وهو كان المقصود ؛ لأنه مطلوب لعينه ، ومن الصيد من أوقعه الطمع في تحصيل الحب المبذور في الحبالات ، فأبصره ، فقاده الإحسان فرمى نفسه عليه فصاده ، فلولا الإحسان ما جاء إليه ، فمجيئه معلول ، والبر هو المحسن ، والإحسان ، والحق غيور ، فما أراد من هذه الطائفة الخاصة الذين جعلهم حراما ليكونوا له أن يجعلهم عبيد إحسان ، فيكون للإحسان لا له ، ولهذا دعاهم شعثا غبرا مجردين من المخيط ملبين لإجابته بالإهلال كما أجاب الطائر لصوت الصائد فحرم عليهم لمكانتهم صيد البر الذي هو الإحسان ما داموا حرما حالا في المكان الحلال ، والحرام ، ومكانا في الحرام ، وإن كانوا حلالا أو حراما فحيثما كانت الحرمة امتنع صيد الإحسان ، فإن الله من صفاته الغيرة ، فلم يرد أن يدعو هذه الطائفة المنعوتين بالإحرام من باب النعم ، والإحسان فيكونون عبيد إحسان لا عبيد حقيقة ؛ فإنه استهضام بالجناب الإلهي . يقال : من صحبك لغرض انقضت منه بانقضائه وصحبة العبد ربه ينبغي أن تكون ذاتية كما هي في نفس الأمر ؛ لأنه لا خروج للعبد عن قبضة سيده ، وإن أبق في زعمه كما هو ملكه ، وهو جاهل بملك سيده ، فلهذا حرم على الحاج صيد البر ما دام حراما ، فإذا خرج من إحرامه وصار حلالا حل له صيد البر ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه . خطابا منه لعبيد الإحسان حيث جهلوا مقاديرهم ، وما ينبغي لجلال الله من الانقياد بالطاعة إليه ، ولم يحرم صيد البحر على المحرم ما دام حرما ، لأن صيد البحر صيد ماء ، وهو عنصر الحياة ، والمطلوب بإقامة هذه العبادة ، وغيرها إنما هو حياة القلوب ، والجوارح وقعت المناسبة بين ما طلب منه ، وبين الماء ، فلم يحرم صيده أن يتناوله ، ولهذا جاء بلفظ البحر لاتساعه ؛ فإنه يعم ، وكذلك هو الأمر في نفسه ؛ فإنه ما من شيء خلقه إلا هو يسبح بحمده ، ولا يسبح إلا هي فسرت الحياة في جميع الموجودات ، فاتسع حكمها فناسب البحر في الاتساع ، ولذا لم يقل صيد الماء لمراعاة السعة التي في البحر ، فصيد البحر حلال للحلال ، والحرام ، والله أعلم .




الخدمات العلمية