الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم يفيض إلى مكة ويطوف كما وصفناه وهذا الطواف طواف ركن في الحج ويسمى طواف الزيارة وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر وأفضل وقته يوم النحر ولا آخر لوقته بل له أن يؤخر إلى أي وقت شاء ، ولكن يبقى مقيدا بعلقة الإحرام فلا تحل له النساء إلى أن يطوف فإذا طاف تم التحلل وحل الجماع وارتفع الإحرام بالكلية ، ولم يبق إلا رمي أيام التشريق والمبيت بمنى وهي واجبات بعد زوال الإحرام على سبيل الاتباع للحج ، وكيفية هذا الطواف مع الركعتين كما سبق في طواف القدوم فإذا فرغ من الركعتين فليسع كما وصفنا إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم ، وإن كان قد سعى فقد وقع ذلك ركنا فلا ينبغي أن يعيد السعي .

وأسباب التحلل ثلاثة : الرمي والحلق والطواف الذي هو ركن .

ومهما أتى باثنين من هذه الثلاثة فقد تحلل أحد التحللين ولا حرج عليه في التقديم والتأخير بهذه الثلاث مع الذبح ولكن الأحسن أن يرمي ، ثم يذبح ، ثم يحلق ، ثم يطوف .

والسنة للإمام في هذا اليوم أن يخطب بعد الزوال وهي خطبة وداع رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الحج أربع خطب : خطبة يوم السابع ، وخطبة يوم عرفة ، وخطبة يوم النحر ، وخطبة يوم النفر الأول ، وكلها عقيب الزوال ، وكلها أفراد إلا خطبة يوم عرفة فإنها خطبتان بينهما جلسة .

التالي السابق


(ثم يفيض إلى مكة ويطوف) بالبيت، (كما وصفنا) أولا (وهذا الطواف طواف ركن في الحج ويسمى طواف الزيارة ) ; لأنهم يأتون من منى زائرين البيت، ويعودون في الحال، وإنما سمي طواف ركن; لأنه لا بد منه في حصول الحج، ويسمى طواف الإفاضة للإتيان به عقيب الإفاضة من منى، وربما يسمى طواف الصدر أيضا، والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع (وأول وقته) اعلم أن المستحب أن يرمي بعد طلوع الشمس، ثم يأتي بباقي الأعمال فيقع الطواف في ضحوة النهار، ويدخل وقتها جميعا (بعد نصف الليل من ليلة النحر) وبه قال [ ص: 401 ] أحمد وعن أبي حنيفة ومالك: إن شيئا منها لا يجوز قبل طلوع الفجر، (وأفضل وقته) ، أي: الطواف (يوم النحر ولا آخر لوقته) ، أي لا يتأقت آخره، وكذلك الحلق (بل له أن يؤخر إلى أي وقت شاء، ولكن يبقى مقيدا بعلقة الإحرام) فلا يخرج من مكة حتى يطوف فإن طاف للوداع، وخرج وقع عن الزيارة (و) إن خرج ولم يطف أصلا (لا تحل له النساء إلى أن يطوف ) ، وإن طال الزمان (فإذا طاف تم تحلله وحل له الجماع وارتفع عنه الإحرام بالكلية، ولم يبق عليه إلا رمي أيام التشريق والمبيت بمنى ) ، وأما آخر وقت بقية أعمال الحج فقد ذكرنا أن الحلق مثل الطواف في أنه لا آخر لوقته، وأما الرمي فيمتد وقته إلى غروب الشمس يوم النحر، وهل يمتد تلك الليلة ؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، وأما الذبح فالهدي لا يختص بزمان، ولكن يختص بالحرم بخلاف الضحايا تختص بالعيد وأيام التشريق، ولا تختص بالحرم، وقضية قولهم لا يتأقت الطواف من طريق الإجزاءات لا يصير قضاء، لكن في التتمة أنه إذا تأخر عن أيام التشريق صار قضاء .

وعند أبي حنيفة: آخر وقت الطواف آخر اليوم الثاني من أيام التشريق (وهي واجبات بعد زوال الإحرام على سبيل الاتباع للحج، وكيفية هذا الطواف مع الركعتين) بعده (كما سبق في طواف القدوم ) سواء (فإذا فرغ من الركعتين) المذكورتين (فليسع كما وصفنا) هذا (إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، وإن كان قد سعى فقد وقع ذلك ركنا فلا ينبغي أن يعيد السعي) ; لأن السعي لم يشرع إلا مرة واحدة قال الشمني من أصحابنا: لكن موضع السعي بطريق الأصالة عقيب طواف الزيارة; لأن السعي عقيب الطواف، والشيء إنما يتبع ما هو أقوى منه ، والسعي واجب، وطواف الزيارة ركن، وإنما جاز السعي عقيب طواف القدوم لكثرة أفعال الحج يوم النحر اهـ .

إلا أن الأفضل تأخيرهما إلى هذا الطواف، وينبغي أن يعلم أن السعي بعد طواف القدوم إنما يعتد به إذا كان في أشهر الحج، أما إذا لم يكن فلا يعتد به، والله أعلم .

وفي القوت: وليطف لقرانه ويسع طوافين وسعيين ليخرج من اختلاف العلماء جمعهما أو فرقهما اهـ .

قلت: وهو مذهب أبي حنيفة، وقول علي، وابن مسعود، والشعبي، ومجاهد، (وأسباب التحلل ثلاثة: الرمي والحلق والطواف الذي هو ركن) اعلم أن أعمال الحج يوم النحر إلى أن يعود إلى منى أربعة الثلاثة التي ذكرها المصنف، والذبح وهو بعد الرمي، والترتيب فيها على النسق المذكور مسنون، وليس بواجب، أما إنه مسنون فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعلها، وأما إنه ليس بواجب فلما سيأتي قريبا، وعن مالك وأبي حنيفة وأحمد أن الترتيب بينها واجب، ولو تركه فعليه دم، ثم إن المستحب أن يرمي بعد طلوع الشمس، ثم يأتي بباقي الأعمال فيقع الطواف في ضحوة النهار ويدخل وقتها بعد انتصاف ليلة النحر كما تقدم قريبا، فإذا عرفت ذلك فنقول: للحج تحللان وللعمرة تحلل واحد، وذلك لأن الحج يطول زمانه وتكثر أعماله بخلاف العمرة، وأبيح بعض محظوراته دفعة وبعضها أخرى وهذا كالحيض والجنابة لما طال زمان الحيض جعل لارتفاع محظوراته محلان انقطاع الدم والاغتسال، والجنابة لما قصر زمانها جعل لارتفاع محظوراتها محل واحد، ثم أسباب تحلل الحج غير خارجة عن الأعمال الأربعة، والذبح غير معدود منها; لأنه سنة ولا يتوقف التحلل عليه ولذا لم يذكره المصنف في جملة الأسباب، بقي الرمي والحلق والطواف فإن لم نجعل الحلق نسكا فللتحلل سببان الرمي والطواف، فإذا أتى بأحدهما يحصل التحلل الأول، وإذا أتى بالثاني لا بد من السعي بعد الطواف قبل، كما أشار إليه المصنف لكنهم لم يفردوه وعدوه مع الطواف شيئا واحدا، وإن جعلنا الحلق نسكا كما ذهب إليه المصنف فالثلاثة أسباب التحلل، (ومهما أتى باثنين من هذه الثلاث) ، أما الحلق والرمي، أو الرمي والطواف، أو الحلق والطواف (فقد تحلل أحد التحللين) وهو الأول، وإذا أتى بالثالث حصل الثاني قال الإمام وشيخه: كان ينبغي التصنيف لكن ليس للثلاثة نصف صحيح فنزلنا الأمر على اثنين، كما صنعنا في تمليك العبد طلقتين، ونظائره هذا ما أورده عامة الأصحاب واتفقوا عليه ووراءه وجوه مهجورة أحدها: عن أبي سعيد الإصطخري أن دخول وقت الرمي بمثابة نفس الرمي في إفادة التحلل، والثاني عن أبي القاسم الداركي: أنا إذا جعلنا الحلق نسكا حصل التحللان معا بالحلق والطواف وبالرمي والطواف [ ص: 402 ] ولا يحصل بالحلق، والرمي إلا أحدهما، والثالث: عن أبي إسحاق عن بعض الأصحاب أنا وإن جعلنا الحلق نسكا فإن أحد التحللين يحصل بالرمي وحده، وبالطواف وحده، ومن فاته الرمي ولزمه بدله فهل يتوقف التحلل على الإتيان ببدله فيه ثلاثة أوجه: أشبهها نعم تنزيلا للبدل منزلة المبدل، وأما العمرة فتحللها بالطواف والسعي لا غير، إن لم نجعل الحلق نسكا، وهما مع الحلق إذا جعلناه نسكا .

قال الرافعي: ولست أدري لم عدوا السعي من أسباب التحلل في العمرة دون الحج، ولم يعدوا أفعال الحج كلها أسباب التحلل، كما فعلوه في العمرة، ولو اصطلحوا عليه لقالوا: التحلل يحصل بها سوى الواحد للأخير والثاني بذلك الأخير، ويمكن تفسير أسباب التحلل في العمرة بأركانها الفعلية، وأيضا بالأفعال التي يتوقف عليها تحللها، ولا يمكن التفسير في الحج بواحد منها، أما الأول: فلإخراجهم الوقوف عنها، وأما الثاني: فلإدخالهم الرمي فيها مع أن التحلل لا يتوقف عليه ولا على بدله على رأي، وعلى كل حال فإطلاق اسم السبب على كل واحد من أسباب التحلل ليس على معنى استقلاله، بل هو كقولنا: اليمين والحنث سببان للكفارة والنصاب والحول سبب للزكاة، ثم أشار المصنف إلى ما سبق به الوعد من أن الترتيب في أعمال الحج الأربعة المذكورة ليس بواجب بقوله: (ولا حرج عليه في التقديم والتأخير في هذه الثلاث مع الذبح) .

وذلك لما روي عن ابن عمر، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، فجاء آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، فقال: ارم ولا حرج، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج، (ولكن الأحسن أن يرمي، ثم يذبح، ثم يحلق، ثم يطوف) .

وقد وقع للمصنف في الوجيز خلاف ذلك، فقال: ثم يحلقون وينحرون فقدم ذكر الحلق على النحر، ونبه الرافعي في شرحه: أن المستحب أن يكون النحر مقدما على الحلق، ثم نعود إلى المسائل المتعلقة بهذه المسألة، فنقول: لو ترك المبيت بمزدلفة، وأفاض إلى مكة قبل أن يرمي ويحلق، أو ذبح قبل أن يرمي فلا بأس ولا فدية ولو حلق قبل أن يرمي، وقبل أن يطوف فإن قلنا: الحلق نسك فلا بأس، وإن جعلناه استباحة محظور فعليه الفدية لوقوع الحلق قبل التحلل .

وروى القاضي ابن كج أن أبا إسحاق وابن القطان ألزماه الفدية، وإن جعلنا الحلق نسكا، والحديث حجة عليهما ومؤيد للقول الأصح: وهو أن الحلق نسك، قاله الرافعي. وقال ابن دقيق العيد: وفي هذا نظر; لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكا أن يكون من أسباب التحلل .

(والسنة للإمام في هذا اليوم أن يخطب بعد الزوال وهي خطبة وداع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .

رواه البخاري من حديث أبي بكر: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، وله من حديث ابن عباس: خطب الناس يوم النحر، وفي حديث علقه البخاري، ووصله ابن ماجه من حديث ابن عمر وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها، فقال: أي يوم هذا؟.... الحديث وفيه، ثم ودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع (ففي الحج أربع خطب: خطبة يوم السابع، وخطبة يوم عرفة، وخطبة يوم النحر، وخطبة يوم النفر الأول، وكلها عقيب الزوال، وكلها أفراد إلا خطبة يوم عرفة فإنهما خطبتان بينهما جلسة) ، وقد تقدم الكلام على هذه الخطب عند ذكر أولها تفصيلا، وهذه هي خطب الحج .

وما رواه أبو داود عن رافع بن عمر والمزني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء، وعلي يعبر عنه والناس بين قائم وقاعد فمحمول على أنها خطبة تعليم لا أنها من خطب الحج.




الخدمات العلمية