الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الجملة العاشرة في زيارة المدينة وآدابها .

قال صلى الله عليه وسلم : من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي وقال صلى الله عليه وسلم : من وجد سعة ولم يفد إلي فقد جفاني وقال صلى الله عليه وسلم : من جاءني زائرا لا يهمه إلا زيارتي كان حقا على الله سبحانه أن أكون له شفيعا فمن قصد زيارة المدينة فليصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه كثيرا .

فإذا وقع بصره على حيطان المدينة وأشجاره قال : اللهم هذا حرم رسولك ، فاجعله لي وقاية من النار وأمانا من العذاب وسوء الحساب وليغتسل قبل الدخول من بئر الحرة وليتطيب وليلبس أنظف ثيابه فإذا دخلها فليدخلها متواضعا معظما ، وليقل بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رب أدخلني مدخل صدق ، وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ، ثم يقصد المسجد ويدخله ويصلي بجنب المنبر ركعتين ويجعل عمود المنبر حذاء منكبه الأيمن ويستقبل السارية التي إلى جانبها الصندوق ، وتكون الدائرة التي في قبلة المسجد بين عينيه فذلك موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يغير المسجد وليجتهد أن يصلي في المسجد الأول قبل أن يزاد فيه

التالي السابق


(الجملة العاشرة في زيارة مسجد المدينة وآداب الزيارة ) .

أما مسجد المدينة وفضله والصلاة فيه فقد تقدم طرف من ذلك في أول الباب منها حديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وقد تقدم الكلام عليه، ومنها عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى، قال: مسجدكم هذا مسجد المدينة، أخرجه مسلم، وعن ابن عباس أن امرأة شكت شكوى، فقالت: إن شفاني الله تعالى لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس فبرئت، ثم تجهزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتها ذلك، فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت، وصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة، أخرجه مسلم، وقد روي ذلك من حديث الأرقم بن أبي الأرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه قال: قلت: يا رسول الله إني أريد أن أخرج إلى بيت المقدس، قال: فلم؟ قلت: الصلاة فيه، قال: الصلاة هناك أفضل من الصلاة هنا بألف مرة، أخرجه ابن الجوزي في مثير العزم، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، وإن مسجده آخر المساجد، أخرجاه .

وقد روي ذلك من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا خاتم الأنبياء ومسجدي آخر المساجد أحق أن يزار وتركب إليه الرواحل.

أخرجه ابن الجوزي في مثير العزم، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى في مسجدي أربعين صلاة كتب له براءة من النار وبراءة العذاب، وبرئ من النفاق، أخرجه أحمد.

وقال ابن حبان في التقاسيم والأنواع: ذكر الخبر الدال على أن الخارج من منزله يريد مسجد المدينة من أي بلد تكتب له بكل خطوة حسنة وتحط الأخرى عنه سيئة إلى أن يرجع إلى بلده، وأخرج فيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجدي فرجل تكتب له حسنة، ورجل تحط عنه خطيئة حتى يرجع، والحديث الأول حجة على من قال: المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وقول ميمونة للتي نذرت أن تصلي في بيت المقدس حجة لأصحاب الشافعي على أن المكي والمدني إن نذرا الخروج إلى بيت المقدس والصلاة فيه لا يلزمهما ذلك; لأن مكانهما أفضل، وقوله إلا المسجد الحرام اختلف في المراد بهذا الاستثناء، فعند الشافعي أن المراد: إلا المسجد الحرام فإنه أفضل من مسجدي، فعلى هذا فتكون مكة أفضل من المدينة.

وقال عياض: أجمعوا على أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم [ ص: 416 ] أفضل بقاع الأرض، وأن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض بعده، ثم اختلفوا في: أيهما أفضل؟ فذهب عمر وجماعة من الصحابة إلى تفضيل المدينة، وهو قول مالك وأكثر المدنيين، وحملوا الاستثناء المذكور على أن مسجدي يفضله بدون الألف، وذهب أهل الكوفة إلى تفضيل مكة، وبه قال ابن وهب وابن حبيب من أصحاب مالك، وإليه ذهب الشافعي اهـ .

وقد وردت أحاديث في فضل زيارته صلى الله عليه وسلم، أو رد المصنف منها ثلاثة، فقال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي ) قال العراقي: رواه ابن عدي والطبراني والدارقطني والبيهقي وضعفه من حديث ابن عمر اهـ .

قلت: ورواه البزار وأبو يعلى وابن عدي والدارقطني من طريق حفص بن أبي داود عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمرو من هذا الوجه، رواه البيهقي ووجه تضعيفه أن راويه حفصا ضعيف الحديث، وإن كان أحمد قال فيه: صالح، وأما الطبراني فرواه في الأوسط من طريق الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم عن عائشة بنت يونس امرأة الليث بن أبي سليم عن ليث بن أبي سليم، وفي هذا الإسناد من لا يعرف .

وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر مرفوعا: من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي، وكذلك لفظ الدارقطني وأبي الشيخ والطبراني وابن عدي والبيهقي وزاد ابن الجوزي في مثير العزم: وصحبني، وعن حاطب بن الحارث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة، أخرجه الدارقطني، وابن نافع، وأبو بكر الدينوري في المجالسة، وابن الجوزي في الموضوعات .

وقال ابن حبان في سنده: النعمان بن شبل، وهو يأتي عن الثقات بالطامات، وقال الدارقطني: الطعن في هذا الحديث على ابن ابنه محمد بن مهر بن النعمان على النعمان، (وقال صلى الله عليه وسلم: من وجد سعة ولم يغد إلي فقد جفاني ) ، قال العراقي: رواه ابن عدي والدارقطني في غرائب مالك، وابن حبان في الضعفاء، والخطيب في الرواة عن مالك من حديث ابن عمر بلفظ: من حج ولم يزرني فقد جفاني، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات .

وروى البخاري في تاريخ المدينة من حديث أنس: ما من أحد من أمتي له سعة، ثم لم يزرني فليس له عذر اهـ .

قلت: وحديث ابن عمر رواه أيضا الديلمي وعبد الواحد التميمي الحافظ في كتاب جواهر الكلام في الحكم والأحكام من كلام سيد الأنام، وقد رد الحافظ السيوطي على ابن الجوزي في إيراد في الموضوعات، وقال: لم يصب، وحديث أنس أخرجه أبو محمد بن عساكر في فضائل المدينة، (وقال صلى الله عليه وسلم: من جاءني زائرا لا يهمه إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا ) .

قال العراقي: رواه الطبراني من حديث ابن عمر وصححه ابن السكن اهـ. قلت: ورواه الدارقطني والخلعي في فوائده بلفظ: لم تنزعه حاجة إلا زيارتي، وتصحيح ابن السكن إياه، وإيراده له في أثناء الصحاح له، وكذا صححه عبد الحق في سكوته عنه، والتقي السبكي في رد مسألة الزيارة لابن تيمية باعتبار مجموع الطرق، وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح المعبري، قال: حدثني رجل من آل عمر عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من زارني لا يهمه إلا زيارتي كنت له شفيعا أو شهيدا، ومن مات بأحد الحرمين بعثه الله من الآمنين، فهذه ثلاثة أحاديث أوردها المصنف، وفي الباب أحاديث أخر منها عن أنس - رضي الله عنه - قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة أظلم منها كل شيء، ولما دخل المدينة أضاء منها كل شيء .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المدينة فيها قبري، وبها بيتي وتربتي وحق على كل مسلم زيارتها،
أخرجه أبو داود وعنه أيضا من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة أخرجه البيهقي وابن الجوزي في مثير العزم، وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور .

حدثنا سعيد بن عثمان الجرجاني، حدثنا ابن أبي فديك، أخبرني أبو المثنى سليمان بن يزيد الكعبي، عن أنس فساقه، وسليمان ضعفه ابن حبان، والدارقطني، وعن رجل من آل حاطب رفعه: من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة، الحديث أخرجه البيهقي، وهو مرسل والرجل المذكور مجهول وزاد عبد الواحد التميمي في [ ص: 417 ] جواهر الكلام: من زارني إلى المدينة، ورواه عن أنس، وعن أبي هريرة مرفوعا، من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا بخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره، أخرجه ابن أبي شيبة، وابن ماجه والحاكم والبيهقي، وعن ابن عباس: من حج إلى مكة، ثم قصدني في مسجدي كتب له حجتان مبرورتان، أخرجه الديلمي وعن ابن عمر رفعه: من زار قبري وجبت له شفاعتي، أخرجه الحكيم الترمذي وابن عدي والدارقطني والبيهقي من طريق موسى بن هلال العبدي عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر وموسى قال: أبو حاتم مجهول، أي العدالة .

ورواه ابن خزيمة في صحيحه من طريقه وقال: إن صح الخبر فإن في القلب من إسناده شيئا، ثم رجح أنه من رواية عبد الله بن عمر العمري المكبر الضعيف لا المصغر الثقة، وجزم الضياء في الأحكام وقبله البيهقي بأن عبد الله بن عمر المذكور في هذا الإسناد هو المكبر، وإذا فهمت ذلك فاعلم أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من أهم القربات، ويندب أن ينوي الزائر مع التقرب بزيارته صلى الله عليه وسلم التقرب بالمسافرة إلى مسجده الشريف بالصلاة فيه كيلا تفوته فضيلة شد الرحال، وكره مالك أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسن ما علل به وجه الكراهة ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فكره إضافة هذا اللفظ إلى القبر لئلا يقع التشبه بأولئك سدا للذريعة وحسما للباب، فعلى هذا إذا قال: زرنا النبي صلى الله عليه وسلم، (فمن قصد الزيارة فليصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه كثيرا ) بأن يجعل أكثر ورده ذلك مع كمال المراقبة وحضور القلب (فإذا وقع بصره على جدار المدينة ) الأولى حيطان المدينة بدليل قوله (وأشجارها) فإن حيطانهما وهي نخلها المحوط عليها، إنما هي خارجة المدينة (فليقل: اللهم هذا حرم) نبيك (ورسولك صلى الله عليه وسلم، فاجعله لي وقاية من النار وأمانا) ، وفي بعض النسخ وأمنا (من العذاب) ، وزيد في رواية: (وسوء الحساب وليغتسل قبل الدخول ) إليها (من بئر الحرة ) ، وهو موضع خارج المدينة وبه كانت الواقعة المشهورة بوقعة الحرة، والحرة في الأصل أرض ذات أحجار سود (وليتطيب) بأحسن ما يجد عنده من الطيب، (وليلبس أفضل ثيابه وأنظفها) ، وأحسنها (وليدخل المدينة متواضعا) ، متمسكنا (ومعظما، وليقل بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رب أدخلني مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، ثم ليقصد المسجد ويدخله) من باب جبريل عليه السلام مقدما يمناه في الدخول قائلا: بسم الله، اللهم رب محمد صل على محمد، رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك (ويصلي بجنب المنبر الشريف) في الروضة (ركعتين) يحيي بهما المسجد، (ويجعل عمود المنبر بحذاء منكبه الأيمن وليستقبل السارية) ، هي الأسطوانة (التي إلى جانبها الصندوق، وتكون الدائرة التي في قبلة المسجد بين عينيه) ، أي: مواجهة له (فذلك موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم) في صلاته (قبل أن يغير المسجد) .

وروي عن ابن عمر قال: إن الناس كثروا في عهد عمر، فقال له قائل: يا أمير المؤمنين لو وسعت في المسجد، فقال له عمر: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني أريد أن أزيد في قبلة مسجدنا ما زدت فيه وزاد عمر في القبلة إلى موضع المقصورة وكان بين المنبر وبين الجدار الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر ما تمر شاة، فأخرجه عمر إلى موضع المقصورة اليوم، وأدخل عمر في هذه الزيادة دارا للعباس بن عبد المطلب، وجعلها للمسلمين وعن خارجة بن زيد قال: زاد عثمان في قبلة المسجد ولم يزد في شرقيه، وزاد في غربيه قدر أسطوانة، وبناه بالحجارة المنقوشة والقصة وزاد فيه إلى الشام خمسين ذراعا، ثم لم يزد أحد فيه شيئا إلى زمن الوليد بن عبد الملك فأمر عمر بن عبد العزيز بالزيادة فيه كما هو مفصل في تواريخ المدينة.




الخدمات العلمية