الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان الأعمال الباطنة ووجه الإخلاص في النية ، وطريق الاعتبار .

بالمشاهد الشريفة وكيفية الافتكار فيها ، والتذكر لأسرارها .

ومعانيها من أول الحج إلى آخره .

اعلم أن أول الحج الفهم أعني فهم موقع الحج في الدين ثم الشوق إليه ثم العزم عليه ثم قطع العلائق المانعة منه ثم شراء ثوب الإحرام ثم شراء الزاد ثم اكتراء الراحلة ثم الخروج ثم المسير في البادية ثم الإحرام من الميقات بالتلبية ثم دخول مكة ثم استتمام الأفعال كما سبق .

وفي كل واحد من هذه الأمور تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر وتنبيه للمريد الصادق وتعريف وإشارة للفطن .

فلنرمز إلى مفاتحها حتى إذا انفتح بابها وعرفت أسبابها انكشفت لكل حاج من أسرارها ما يقتضيه صفاء قلبه وطهارة باطنه وغزارة فهمه .

أما الفهم اعلم أنه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتنزه عن الشهوات والكف عن اللذات والاقتصار على الضرورات فيها والتجرد لله سبحانه في جميع الحركات والسكنات .

ولأجل هذا انفرد الرهبانيون في الملل السالفة عن الخلق ، وانحازوا إلى قلل الجبال وآثروا التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله عز وجل فتركوا لله عز وجل اللذات الحاضرة وألزموا أنفسهم المجاهدات الشاقة طمعا في الآخرة وأثنى ، الله عز وجل عليهم في كتابه فقال : ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون فلما اندرس ذلك وأقبل الخلق على اتباع الشهوات وهجروا التجرد لعبادة الله عز وجل ، وفتروا عنه بعث الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لإحياء طريق الآخرة ، وتجديد سنة المرسلين في سلوكها .

فسأله أهل الملل عن الرهبانية والسياحة في دينه ، فقال صلى الله عليه وسلم : أبدلنا الله بها الجهاد والتكبير على كل شرف يعني الحج .

وسئل صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال : هم الصائمون فأنعم الله عز وجل على هذه الأمة بأن جعل الحج رهبانية لهم فشرف البيت العتيق بالإضافة إلى نفسه تعالى .

ونصبه مقصدا لعباده وجعل ما حواليه حرما لبيته تفخيما لأمره .

وجعل عرفات كالميزاب على فناء حوضه ، وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره .

ووضعه على مثال حضرة الملوك يقصده الزوار من كل فج عميق ، ومن كل أوب سحيق شعثا غبرا متواضعين لرب البيت ، ومستكينين له خضوعا لجلاله واستكانة لعزته مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بيت ، أو يكتنفه بلد ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم وأتم في إذعانهم وانقيادهم .

ولذلك وظف عليهم فيها أعمالا لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار .

وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية .

، فإن الزكاة إرفاق ووجهه مفهوم وللعقل إليه ميل .

والصوم كسر للشهوة التي هي آلة عدو الله

التالي السابق


(بيان الأعمال الباطنة)

في الحج (ووجه الإخلاص في النية، وطريق الاعتبار بالمشاهد وكيفية الافتكار فيها، والتذكر لأسرارها ومعانيها من أول الحج إلى آخره) على الترتيب المذكور في كتب الفقه، (اعلم أن آول) ما يفتقر إليه الإنسان في (الحج الفهم) ، وهو بسكون الهاء اسم بمعنى العلم هكذا ذكره أئمة اللغة، والمصدر بالتحريك، وقيل بالسكون مصدر، وهي لغة فاشية، (وأعني فهم موقع الحج في الدين) بأن يفهم أنه أحد أركان الدين الذي لا يتصور الدين مع عدمه، (ثم الشوق له) ، وهو أولى ما يبدو له بعد الفهم، (ثم العزم عليه) بحزم القلب، وهو نتيجة الشوق، (ثم) بعد العزم مباشرة الأسباب التي توصله إليه، وأعظمها (قطع العلائق المانعة منه) حسا ومعنى، (ثم) بما يكون دليلا على صحة قصده، وصلاح جزمه مثل (شراء ثوبي الإحرام) إزار ورداء جديدين، أو غسيلين (ثم) بما يزيده تأكيدا مثل (شراء الزاد) من كعك وزيت، وما يحتاج إليه في مؤنته على اختلاف أحوال الناس فيه، (ثم) بما يؤكده تأكيدا فوق تأكيد مثل (اكتراء الراحلة) ، أو شرائها، (ثم) بما يتمم قصده، وهو (الخروج) من منزله في أيامه، والمبيت في موضع خارج البلد، والمكث به يوما أو يومين لقضاء مهماته، وليلحق به باقي الرفقة، (ثم السير في البادية) أي: الصحراء (ثم الإحرام من الميقات ) ، إذا وصل إليه (بالتلبية) عقيب غسل وركعتين كما تقدم، ولم يتقدم للمصنف في كتابه هذا ذكر المواقيت، ولا بأس بالكلام عليها إجمالا .

فنقول: اعلم أن المواضع الأربعة المذكورة في حديث ابن عمر في الصحيحين والسنن الأربعة هي: مواقيت الإحرام لأهل البلاد المذكورة فيه: فلأهل المدينة ذو الحليفة، ولأهل الشام الحجفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار حكى الإجماع في ذلك ابن المنذر والنووي وغيرهما، ومعنى التوقيت بها أنه لا يجوز لمريد النسك أن يجاوزها غير محرم، والمراد بأهل [ ص: 442 ] هؤلاء البلاد كل من سلك طريق سفرهم بحيث إنه مر على هذه المواقيت، وإن لم يكن من بلادهم فلو مر الشامي على ذي الحليفة كما يفعل الآن لزمه الإحرام منها، وليس له مجاوزتها إلى الجحفة التي هي ميقاته، وقد صرح بذلك في حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما، فقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن فمن أراد الحج والعمرة، وقوله لهن أي: الأقطار المذكورة، وهي المدينة وما حولها، والمراد لأهلهن فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه .

وفي رواية لهم أي: أهل هذه المواضع، وهو أظهر توجيها، وذو الحليفة موضع قرب المدينة على ستة أميال ذكره المصنف وعياض والنووي، وقيل: سبعة أميال، وقال ابن حزم: أربعة أميال، وذكر ابن الصباغ، وتبعه الرافعي أن بينهما ميلا، قال المحب الطبري: وهو وهم والحسن يرد ذلك، وذكر الإسنوي في المهمات أنها على ثلاثة أميال، أو تزيد قليلا، والقول الأول هو الذي صوبه غير واحد من أهل المعرفة، وهو ماء من مياه بني جشم بينهم وبين خفاجة العقيليين، وهو أبعد المواقيت من مكة بينهما نحو عشر مراحل أو تسع وذو الحليفة أيضا موضع آخر بتهامة، ليس هو المذكور في الحديث، والشام حدها من العريش إلى نابلس، وقيل: إلى الفرات قاله النووي، وعند النسائي من حديث عائشة، ولأهل الشام ومصر الجحفة، وهذه زيادة يجب الأخذ بها، وعليها العمل، والجحفة على ستة أميال من البحر، وثماني مراحل من المدينة، ونحو ثلاث مراحل من مكة، وهي مهيعة، وهي الآن خربة لا يصل إليها أحد لوخمها، وإنما يحرم الناس من رابغ، وهي على محاذاتها، والنجد ما ارتفع من الأرض، وهو اسم خاص لما دون الحجاز مما يلي العراق، وقرن بفتح فسكون يقال له: قرن المنازل، وقرن الثعالب على نحو مرحلتين من مكة، وهو أقرب المواقيت إلى مكة، وفي المشارق هو على يوم وليلة من مكة.

وقال ابن حزم: أقرب المواقيت إلى مكة يلملم، وهو جبل من جبال تهامة على ثلاثين ميلا من مكة، والمراد باليمن بعضه، وهو تهامة منه خاصة، وأما أهل نجد واليمن فميقاتهم قرن، وبقي ميقات خامس لم يتعرض له في الحديث ابن عمر، وهو ذات عرق ميقات أهل العراق بينها، وبين مكة اثنان وأربعون ميلا، وهذا الميقات مجمع عليه، وحكى ابن حزم، عن قوم أنهم قالوا: ميقات أهل العراق العقيق، وعند أبي داود من حديث ابن عباس مرفوعا: وقت لأهل المشرق العقيق، وسكت عليه، وحسنه الترمذي، ثم اختلفوا، هل صادف ذلك ميقاتا لهم بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم، أم باجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟ وفي ذلك خلاف لأصحاب الشافعي حكاه الرافعي والنووي، وجهين وحكاه القاضي أبو الطيب قولين المشهور منهما من نص الشافعي أنه باجتهاد عمر، وهو الذي ذكره المالكية، والذي عليه أكثر الشافعية أنه منصوص، وهو مذهب الحنفية، وهنا تحقيق آخر أودعته في كتابي الجواهر المنيفة في أصول أدلة مذهب أبي حنيفة فإني قد وسعت هناك الكلام في هذه المسألة فراجعه، (ثم دخول مكة ) محرما ملبيا، (ثم استتمام) باقي (الأفعال كما سبق) بيانه .

(وفي كل واحد من هذه الأمور تذكرة للمتذكر وعبرة) تامة (للمعتبر وتنبيه) واضح (للمريد الصادق) ، وإرادته (وتعريف) ظاهر (وإشارة) باهرة (للفطن) العاقل، (فلنرمز) أي: نذكر بطريق الرمز، والتلويح (إلى أطرافها حتى إذا انفتح بابها) ، ورفع حجابها (وعرفت أسبابها) لأربابها، (وانكشف لكل حاج) لبيت ربه (من أسرارها) وخفي معانيها (ما يقتضيه صفاء قلبه) من كدورات السوء، (وطهارة باطنه) ، عن خبث الغيرية، (وغزارة علمه) في المدارك الفيضية فنقول: (أما الفهم) وهو أول الأمور، (فاعلم أنه لا وصول إلى حضرة الله سبحانه وتعالى إلا بالتنزه) ، والتباعد (عن) ملابسة (الشهوات) النفسية والكونية (والكف عن اللذات) الحسية، (والاقتصار على الضرورات فيها) أي: ما لا بد له عنها (والتجرد إلى الله تعالى) عن كونه (في جميع الحركات والسكنات) ، واللحظات والإرادات، (ولأجل هذا انفرد الرهابين) ، جمع راهب، والمشهور رهباني، وقيل: الرهابين جمع الجمع، وهم عباد النصارى، والاسم الرهبانية من الرهبة، وهو الخوف، وقد ترهب الراهب انقطع للعبادة (من الملل السالفة) أي: الأمم الماضية (عن) معاشرة (الخلق، وانحازوا) أي: لجؤوا (إلى قلل الجبال) أي: رؤوسها لئلا يعلم مكانهم (وآثروا) أي: اختاروا [ ص: 443 ] (التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله عز وجل فتركوا لله عز وجل) أي: لأجله (اللذات الحاضرة) العاجلة، (وألزموا أنفسهم المجاهدات الشاقة) الشديدة على النفس من ترك الأكل والشرب والملابس الفاخرة (طمعا في الآخرة، فأثنى الله عز وجل عليهم في كتابه) العزيز، (فقال: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) ، ومدحهم الله تعالى على الرهبانية ابتداء، فقال: ورهبانية ابتدعوها ، ثم ذمهم على ترك شرطها بقوله: فما رعوها حق رعايتها ; لأن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أحبطها، (فلما اندرس ذلك) ومحي رسمه، (وأقبل الخلق على اتباع الشهوات) النفسانية، (وهجروا التجرد لعبادة الله تعالى، وفتروا عن ذلك) ، وتكاسلت هممهم، ( بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم لإحياء) ما اندرس من (طريق الآخرة، وتجديد سنة المرسلين في سلوكها) ، ودخل الناس في دينه أفواجا من كل طرف، (فسأله أهل الملل) ، ممن أسلم منهم (عن السياحة) في الشعاب والجبال (والرهبانية في دينه، فقال صلى الله عليه وسلم: أبدلنا الله بها بالجهاد والتكبير على كل شرف) أي: مرتفع من الأرض ( يعني) بالجهاد (الحج) .

رواه أبو داود من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة فقال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله، رواه الطبراني بلفظ: إن لكل أمة سياحة، وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله، ولكل أمة رهبانية، ورهبانية أمتي الرباط في نحر العدو.

وللبيهقي في الشعب من حديث أنس: رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، وكلاهما ضعيف، وللترمذي وحسنه والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه من حديث أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني، فقال: عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف، وهذا قد تقدم قريبا، (وسئل صلى الله عليه وسلم عن) معنى (السائحين) في الآية، (فقال: هم الصائمون) .

رواه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة، وقال: المحفوظ عن عبيد بن عمير عن عمر مرسلا هكذا قاله العراقي، ووجدت بخط الحافظ ابن حجر على هامش نسخة المغني ما نصه: لعله موقوف، (فأنعم الله عز وجل على هذه الأمة) المرحومة (بأن جعل) الخروج إلى (الحج رهبانية لهم) ، أي بمنزلتها لما في كل منهما قطع المألوفات والمستلذات من سائر الأنواع (فشرف البيت العتيق بالإضافة إلى نفسه) إذ سماه بيت الله، (ونصبه مقصدا لعباده) يقصدونه من كل جهات، (وجعل ما حواليه حرما لبيته) بالحدود المعلومة، (تفخيما لأمره) وتعظيما لشأنه، (وجعل عرفات كالميدان على فناء حرمه، وأكد حرمة المواضع بتحريم صيده) البري، (وقطع شجره ووضعه على مثال حضرة الملوك) في الدنيا (يقصده الزوار) والوفاد (من كل فج عميق، ومن كل أوب سحيق) أي: بعيد (شعثاء غبراء) جمع أشعث وأغبر (متواضعين لرب البيت، ومستكينين له) أي: متذللين (خضوعا لجلاله واستكانة لعزته مع الاعتراف بتنزهه) وتقدسه، (عن أن يحويه بيت، أو يكنفه بلد) ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، (فيكون ذلك أبلغ في رقهم و) آكد في (عبوديتهم) وذلهم (وأتم لإذعانهم وانقيادهم، ولذلك وظف عليهم) وقرر ( فيها أعمالا) غريبة المعنى، (لا تأنس بها النفوس) البشرية، ولا تألفها (ولا تهتدي إلى معانيها العقول) القاصرة عن إدراك المعاني الغريبة (كرمي الجمار) الثلاث، (والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار) وغيرهما، (وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق، و) تمام (العبودية) والذل، (فإن الزكاة انفاق إرفاق) أي بذل ما فيه الرفق لفقراء المسلمين، (ووجهه مفهوم) عند التأويل، (وللعقل إليه سبيل) وألفة وإيناس (والصوم فيه كسر الشهوة التي هي آلة الشيطان عدو الله عز وجل) ، ونصب حبالاته، وذلك بترك المستلذات .




الخدمات العلمية