[ ص: 86 ] الباب الخامس
في مستند قضائه
قاعدة : في الفرق بين الأدلة والعلل والأسباب والحجج في موارد الشرع . أما الأدلة : فتقدم في مقدمة الكتاب أنها قسمان : ، وهي سبعة عشر بالإستقراء : الكتاب ، والسنة ، وما ذكر معهما في المقدمة ، وأدلة وقوعها ، وهي غير متناهية ، لأنها وقوع أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها ، كأدلة الزوال من الرخامات ، وموازين الشمس وغيرها ، وبسطه في المقدمة ، وأدلة المشروعية يتقدم فيها المجتهد ، ثم الأوصاف المنصوبة التي دلت عليها الأدلة التي هي أدلة المشروعية ، منها معقول الحكمة ، كنصب الإسكار علة للتحريم ، والإقتيات للربا ، فهذه علل ، وتارة لا تعقل حكمتها ، كالزوال ، وأوقات الصلوات ، والصيام ، فهذه أسباب ، ثم إذا دلت الأدلة ، وتقرر السبب ، والحكم وعلته ، وتعلق النزاع بين اثنين فيه ، أو هو حق الله على خلقه ، فالمثبت لذلك من بينة ، أو أيمان ، أو إقرار حجج ، فالحجج متأخرة الرتبة عن الجميع ، والأدلة متقدمة على الجميع ، والأسباب والعلل متوسطة متأخرة عن الأدلة ، ومقدمة على الحجج ، فيظهر الفرق بين الجميع . إذا تقررت هذه القاعدة فجميع ما يقضي به الحاكم المقلد حجج إذا قلنا : لا يقضي بعلمه ، وإن قلنا : يقضي بعلمه فليس العلم حجته ، بل بدل الحجة ، لأن مقصود الحجة إثارة الظن عند الحاكم ، فإذا حصل ذلك أو أقوى منه ، قام مقام الحجة على ما سنبين ، إن معنى قول العلماء : [ ص: 87 ] القاضي يقضي بعلمه ، ليس المراد حقيقة العلم ، بل غالبه ظن ، وأما الحاكم المجتهد فيحكم بالحجج والأدلة ، والمقلد لا يجوز له اتباع الأدلة ، وأصل القضاء بالأدلة : أدلة مشروعية الأحكام لمعاذ لما بعثه لليمن : ( كيف تقضي ؟ قال له : أقضي بما في كتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ، قال : ففي سنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ، قال أجتهد رأيي ، فقال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسوله ) وأجمع المسلمون على ذلك ، وإن اختلفوا في الاجتهاد ما هو . قوله _ صلى الله عليه وسلم _ :
وفي المقدمات : يحكم بكتاب الله ، فإن لم يجد فبسنة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ، ويقدم ما صحبه العمل ، لأن أصل مالك : تقديم العمل على خبر الواحد ، وكذلك القياس مقدم على الآحاد على ما ذهب إليه الأبهري ، فإن لم يجد السنة ، فبأقوال الصحابة - رضي الله عنهم - ، فإن اختلفوا فما صحبه العمل من أقوالهم ، وإلا تخيروا من أقوالهم ولم يخالفهم أجمعين ، وقيل : له أن يجتهد وإن خالفهم كلهم ، حجة الأول : قوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم ) فإن فقد ذلك فابن على الأصول بعد مشورة العلماء ، فإن اجتمعوا على شيء أخذت به ، إلا فبأحسن أقوالهم عنده ، وإن رأى مخالفتهم فعل إن كان نظيرا لهم وإلا فلا ، قاله ابن حبيب ، قال : والصحيح له مخالفتهم مطلقا ما لم يكن إجماعا ، وهو على الخلاف هل للمجتهد أن يقلد أقوالا مذكورة في الأصول ، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد ففرضه : المشورة والتقليد ، فإن اختلف العلماء قضى بقول أعلمهم .
[ ص: 88 ] وقيل : بقول أكثرهم على ما وقع في المدونة في الحكاية عن الفقهاء السبعة ، وقيل : يتخير ويتحرى الصواب دون الهوى ، وله الاكتفاء بمشورة واحد ، وأعلمهم أفضل ، ومن دونه يجوز إن كان من أهل الاجتهاد ، وفي النوادر : ، وإذا فقد النصوص مثل بالنظائر وشاور ، ثم إذا حكم فإن أشكل عليه ترك ، ولا يحكم وفي قلبه شك ، ولا بد من بذل الجهد ، ولا يحكم قبل ذلك بما حضره حتى يستفرغ جهده . والعدل واجب إجماعا واتباع الهوى محرم إجماعا . إذا وجد المجتهد حديثا شاذا رده إلى الأصول
سؤال : هو التسوية ، والحاكم لا يسوي لتقديمه المدعى عليه على خصمه ، ويحلف أحدهما دون الآخر ، ويلزم أحدهما البينة دون الآخر ، فلا تسوية ؟ جوابه من وجهين : أحدهما : أنه سوى بينهما في الإقبال عليهما ، والنظر والمجلس والاستماع ، وغير ذلك فقد حصلت التسوية . العدل الواجب
وثانيهما : سوى بينهما في العمل بالمظنون ، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه إلا ما استثناه الشرع ، كالقسامة ، واللعان يسوى فيه بين الأزواج ، والنساء في درء الحد باللعان ، وبين الخصوم في تحليف كل مدعى عليه ، وكل مدع بعد النكول ، وإذا تناكلا لم يحلف واحد منهما ، وسوى بينهما ، والتسوية في صرف مال بيت المال في تقديم الضرورات على الحاجة في حق جميع الناس ، ويسوي في سد الخلة لا مقدار المدفوع ، ويسوي الإمام بين الناس في نصب القضاة والولاة وكفاة الثغور من الكفار والكراع والسلاح .
تنبيه : : تارة يحيط بقواعد مذهبه ، فيجوز له تخريج غير المنصوص على المنصوص بشرط تعذر الفارق ، ومع إمكانه يمتنع ، لأن نسبته إلى إمامه وقواعده كنسبة المجتهد المطلق إلى صاحب الشريعة وشريعته ، فكما للمجتهد المطلق التخريج عند عدم الفارق ، ويمتنع عند الفارق ، فكذلك هذا [ ص: 89 ] المقلد ، وتارة لا يحيط بقواعد مذهبه فلا يجوز له التخريج وإن تعذر الفارق ، لاحتمال أنه لو اطلع على قواعد مذهبه لأوجب له الاطلاع الفرق ، ونسبته إلى مذهبه كنسبة من دون المجتهد المطلق إلى جملة الشريعة ، فكما يحرم على المقلد التخريج فيما ليس مذهب العلماء ، يحرم عليه اتباع الأدلة ، ويجب عليه الأفضل إلا بقول عالم ، وإن لم يظهر له دليله لقصوره عن رتبة الاجتهاد ، فكذلك هذا ، وهو المراد بما تقدم في شروط القضاء : أنه لا يخرج ولا يحكم إلا بمنصوص فافهم هذا التحرير فإنه يطرد في الفتيا . المقلد له حالتان