الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                المسألة الثانية : في الكتاب : تجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض في القتل والجراح ما لم يفترقوا أو يختلفوا إن كانوا اثنين فأكثر ، وهم صبيان كلهم ، ولا يجوز إثبات الصبيان في الجراح بينهم لعدم ضرورة اجتماعهم ، ولا تجوز شهادة الصبيان لكبير على صغير ، وإن شهدت بينة على قول صبي : إن فلانا الصبي قتله لم تقبل ، ولا يقسم بذلك وإن اعترف القاتل لضعف اللوث . وليس في الصبيان قسامة فيما بين بعضهم لبعض ، إلا أن يشهد كبير أن كبيرا قتل صغيرا فيقسم أولياؤه لقوة اللـوث [ ص: 210 ] حينئذ ، وقال أشهب وغيره : لا تجوز شهادة الصبيان ، ولا شهادة الإناث لعدم العدالة ، وقال المخزومي : تجوز شهادة الإناث ، وشهادة ذكور الصبيان في القتل جائزة ، وقال ابن نافع وغيره في شهادة الصبيين على صبيين إنه جرح صبيا ثم [ . . . ] في جرحه فمات : إن ولاته يقسمون : لمات من ضربه ويستحقون الدية ، وخالفنا الأئمة في قبول شهادة الصبيان ، وقال بقبولها علي ، وابن الزبير ، وعمر بن الخطاب ، ومعاوية - رضي الله عنهم - ، وخالفهم ابن عباس - رضي الله عنه - .

                                                                                                                لنا : قوله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) واجتماع الصبيان للتدريب على الحرب من أعظم الاستعداد ; ليكونوا كثيرا أهلا لذلك ، ويحتاجون في ذلك إلى حمل السلاح حيث لا يكون معهم كبير ، فلا يجوز هدر دمائهم فتدعو الضرورة لقبول شهادتهم على الشروط المعتبرة ، والغالب مع تلك الشروط الصدق وندرة الكذب ، فتقديم المصلحة الغالبة على المفسدة النادرة هو دأب صاحب الشرع ، كما جوز الشرع شهادة النساء منفردات في موضع لا يطلع عليه الرجال للضرورة ، ولأقوال الصحابة - رضي الله عنهم - .

                                                                                                                احتجوا بقوله تعالى : ( واستشهدوا شهيدين من رجـالكم ) وهو منع لشهادة غير البـالغ ، وبقوله تعـالى : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) والصبي ليس بعدل ، وبقوله تعالى : ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) وهو نهي ، والنهي لا يتناول الصبي ، فدل على أنه ليس من الشهداء . ولأنه لا يلزمه إقراره فلا تعتبر شهادته كالمجنون ، ولأن الإقرار أوسع من الشهادة لقبوله من العبد والفاسق بخلاف الشهادة ، وقياسا على غير الجراح ، ولأنها لو قبلت لقبلت إذا افترقوا [ ص: 211 ] كالرجال ، وليس فليس ، ولأنها لو قبلت لقبلت في تخريق ثيابهم في الخلوات أو لجازت شهادة النساء بعضهن على بعض في الجراح .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أنه إنما يمنع الإناث لاندراج الصبيان مع الرجال في قوله تعالى : ( وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ) ولأن الأمر بالاستشهاد إنما يكون في المواضع التي يمكن استثناء الشهادة فيها اختيارا ; لأن من شرط النهي الإمكان ، وهذا موضع ضرورة تقع فيه الشهادة بغتة فلا يتناولها الأمر فتكون مسكوتا عنها . وهو الجواب عن الآية الثانية وقوله تعالى ، وعليه تحمل الآية الثالثة في الشهداء الذين استشهدوا اختيارا ، على أن هذه الظواهر عامة ، ودليلنا خاص فيقدم عليها .

                                                                                                                وعن الثاني : أن إقرار الصبي إن كان في المال فنحن نسويه بالشهادة لأنهما لا يقبلان ، وفي الدماء إن كان عمدا ، وعمده خطأ ، فيؤول إلى الدية فيكون إقراره على الغير فلا تقبل كإقرار البالغ .

                                                                                                                وعن الثالــث : الفرق أن الدماء حرمتها أعظم بدليل قبول القسامة ، ولا يقسم على درهم .

                                                                                                                وعن الــرابع : أن الافتراق يحتمل التعليم والتغيير ، والصغير إذا خلي وسجيته الأولى لا يكاد يكذب ، والرجال لهم وازع شرعي إذا افترقوا بخلاف الصبيان .

                                                                                                                وعن الخامــس : ما تقدم من مزيد حرمة الدماء ، ولأن اجتماعهم ليس لتخريق ثيابهم غالبا . بل للضرب والجراح . وأما النساء فلا يجتمعن للقتال ولا هو مطلوب منهن .

                                                                                                                تفريــع : قال القاضي في المعونة : إذا أجيزت فبتسعة شروط ، وستقف بعد هذا على اشتراط عدم شهادة الكبير معهم ، وأن يكون الموطن لا يحضره الكبار ، [ ص: 212 ] وأن يكون المقتول حاضر الجسد ، فتكون الشروط اثني عشر : العقل ليفهموا ما رأوه ، والذكورة ; لأن الضرورة لا تحصل في اجتماع الإناث ، وروي عن مالك : تقبل شهادة الإناث اعتبارا لهن بالبالغين لوثا ، ثم في القسامة والحرية ؛ لأن العبد لا يشهد ، والإسلام ; لأن الكافر لا يقبل في قتل أو جرح ; لأنه الذي تدعو الضرورة الشرعية إليه ، وقيل : يقبل في الجراح فقط ; لأنها شهادة ضعيفة فاقتصر فيها على أضعف الأمرين . وأن يكون ذلك بينهم لعدم ضرورة مخالطة الكبير لهم قبل التفريق لئلا يلقنوا الكذب ، واتفاق أقوالهم ; لأن الاختلاف يخل بالثقة ، اثنان فصاعدا لأنهم لا يكونون أحسن حالا من الكبار . قال ابن يونس : قال محمد : إذا قيدت شهادتهم قبل افتراقهم بالعدول لا يضر رجوعهم إلا أن يتراخى الحكم حتى يكبروا ويعدلوا فيؤخذوا برجوعهم إذا تيقنوا أنهم شهدوا بباطل . وقال سحنون : والفرق بينهم وبين الكبار : أن رجوع الكبار يدل على أنهم كانوا على باطل خوفا من عذاب الله تعالى ، والصبيان يرجعون لأهواء ، فأول أقوالهم هو الصحيح ، ولا تقدح في شهادتهم العداوة والقرابة لضعف مروءاتهم وحمايتهم ، فينطقون بما رأوا من غير مراعاة للقرابة والعداوة ، ومنعها ابن القاسم قياسا على الكبار ، ومنعها ابن عبد الحكم في القرابة دون العداوة ; لأن العداوة تكون لسبب وتزول ، فهي ضعيفة ، ولأنها لا غور لها عندهم ، والقرابة دائمة متأكدة ، ولا ينظر إلى جرحه اتفاقا ، وقال محمد : لا تجوز لكبير على صغير في الجراح ; لأنه بينهم فهو يحسهم ، ويجوز في قتله على الصبي لعدم التجنيب لأنه عدم ، وتجب الدية على عاقلة الجاني ، وقال مالك : إذا شهد صبيان وكبير على صبي أنه قتل صبيا ، سقطت الصبيان ; لأن الكبير قد يخببهم ، قال محمد : ويقسم مع الكبير إن كان عدلا ، قال سحنون : ولا تجوز شهادة الصبيان حيث يحضر الكبار رجال أو نساء لأن النساء تجوز في الخطأ ، وعمد الصبي كالخطأ ، وحضور الكبار يسقطهم لعدم الضرورة إلا أن يكون الكبار ظاهري الجرحة ، وتوقف ابن حبيب في إجازتها حينئذ ، قال ابن نافع وغيره : إذا شهد صبيان على صبي أنه جرح صبيا ثم نزى في جرحه ومات ، فيه القسامة والدية . وقاله سحنون خلاف المدونة ، [ ص: 213 ] وإنما يجب في المدونة دية الجرح فقط ، قال مالك : إذا لعب ستة صبيان في بحر فغرق واحد فشهد ثلاثة أن الاثنين غرقاه ، وشهد الاثنان أن الثلاثة غرقوه ، الدية على الخمسة لاختلاف الشهادة ، وقال محمد : هذا لا يقتسم ، وتسقط شهادتهم للاختلاف ، وقاله مطرف ، وقال : لو كانوا كبارا فاختلفواكانت الدية عليهم في أموالهم ; لأنه صار إقرارا كأنهم قالوا : لم تخرج الجناية عنا . قال عبد الملك : لو شهد صبيان بقتل صبي من صبي ، وشهد آخرون أن القاتل ليس منهما ، بل دابته قتلته جبارا ، مضت الشهادة على القاتل ، وقيل : ذلك اختلاف يسقط الشهادة ، وإنما قاسه على الكبار ، وإن من أثبت حكمها أولى من نافيه ، قال أصبغ : ولو شهد كبيران أنا كنا حاضرين حتى سقط الصبي فمات ولم يقتله ، لعدت شهادة الصبيان كما لو تعارض الكبار ها هنا [ . . . ] في القتل والحدود والطلاق والعتاق ; لأن المثبت أولى . وأنكره سحنون . وقال أصحابنا : يقدمون الكبيرين ، ولأن شهادة الصبيان تبطل بحضور الكبار ، قال صاحب البيان عن عبد الملك وابن نافع : تجوز شهادة صبي مع يمين المشهود له إذا بلغ ، وقيل : يحلف والده عنه ويستحق ، وقيل : تجوز شهادة الإناث في القتل والجراح ، وقيل : بل في الجراح دون القتل ، وهو قول المخزومي في المدونــة على أحد التأويلين ، وقيل : وحدهن دون صبي ، كما تجوز شهادة امرأتين دون رجل فيما لا يحضره الرجال ، قاله عبد الملك ، وقال مطرف : لا بد من اثنين فيهن صبي ; لأن العادة أنهن يختلطن مع الصبيان ، واختلف في اشتراط عدم حضور الكبير من الصبيان ، وعدم اشتراطه ، وقال : هو ظاهر المدونة عندي ، [ ص: 214 ] ووقع منع شهادة الصبيان مطلقا في النــوادر ، وقال غير واحد من أصحابنا : لا يجوز في القتل حتى يشهد العدول على رؤية البدن مقتولا تحقيقا للقتل ، قال عبد الملك : وأقل ما يجوز في شهادة الصبيان : غلامان أو غلام وجاريتان ، ولا يجوز غلام وجارية ، وقال سحنون : ولا يحلف مع صبيين في قتل الخطأ ; لأنهما كشهادة غلام ، وقد جاء عن علي أنه أجاز شهادة الصبيان ، وهذا جمع فيه الذكور والإناث ، وعن مالك : تجوز شهادة الإناث ، وأقل ذلك : اثنتان مع صبي ، وإذا شهد صبيان أن صبيا قتل صبيا لزم العاقلة الدية بغير قسامة ; لأنهما كالكبير ، وإذا شهد اثنان من الصبيان أن فلانا الصبي شج فلانا الصبي ، وشهد آخران : إنما شجه فلان ، قال مالك : بطلت شهادتهم ، وقال عبد الملك : لا تبطل شهادة الصبيان إلا أن يشهد الكبار أن ما شهدوا به لم يكن عن معرفة ومعاينة ، أو شهدوا باختلاف قولهم ، أو أنهم افترقوا قبل الشهادة ، ولا تسقط بمثل هذا شهادة الكبار لقوة شهادتهم ، وإذا شهد الصبيان ثم شهد اثنان قبل الحكم وبعد البلوغ والعدالة : أن ما شهدنا به نحن والباقون باطل ، سقطت الشهادة كلها بشهادة العدول ببطلانها ، وقال سحنون : لا رجوع للصبي ولا ضمان عليه ، ولو رجع بعد البلوغ والحكم لم يضمن ; لأنها كانت في وقت توجب ضمانا ولا أدبا لو رجع .

                                                                                                                فـائدة : قال الأصحاب في هذه المسألة : تقبل شهادتهم قبل أن يخببوا ، مأخوذ من الخب الذي هو الخديعة ، لقول عمر - رضي الله عنه - : إياكم ورطانة الأعاجم فإنها خب . أي تخدع من لا يعرفها فيتواطأوا على أذيته وهو لا يشعر ، ولقوله : لست بالخب والخب لا يخدعني . فكان تعليم الصبي أن يكذب ، ويجري شهادته خداع في الشهادة وحيلة على المشهود له .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية