المسألة الثانية : في الكتاب : تجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض  في القتل والجراح ما لم يفترقوا أو يختلفوا إن كانوا اثنين فأكثر ، وهم صبيان كلهم ، ولا يجوز إثبات الصبيان في الجراح بينهم  لعدم ضرورة اجتماعهم ، ولا تجوز شهادة الصبيان لكبير على صغير  ، وإن شهدت بينة على قول صبي : إن فلانا الصبي قتله لم تقبل ، ولا يقسم بذلك وإن اعترف القاتل لضعف اللوث . وليس في الصبيان قسامة فيما بين بعضهم لبعض ، إلا أن يشهد كبير أن كبيرا قتل صغيرا فيقسم أولياؤه لقوة اللـوث   [ ص: 210 ] حينئذ ، وقال  أشهب  وغيره : لا تجوز شهادة الصبيان  ، ولا شهادة الإناث لعدم العدالة ، وقال  المخزومي     : تجوز شهادة الإناث ، وشهادة ذكور الصبيان في القتل جائزة ، وقال  ابن نافع  وغيره في شهادة الصبيين على صبيين إنه جرح صبيا ثم [ . . . ] في جرحه فمات : إن ولاته يقسمون : لمات من ضربه ويستحقون الدية ، وخالفنا الأئمة في قبول شهادة الصبيان ، وقال بقبولها  علي  ،  وابن الزبير  ،   وعمر بن الخطاب  ،  ومعاوية     - رضي الله عنهم - ، وخالفهم   ابن عباس     - رضي الله عنه - . 
لنا : قوله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة    ) واجتماع الصبيان للتدريب على الحرب من أعظم الاستعداد ; ليكونوا كثيرا أهلا لذلك ، ويحتاجون في ذلك إلى حمل السلاح حيث لا يكون معهم كبير ، فلا يجوز هدر دمائهم فتدعو الضرورة لقبول شهادتهم على الشروط المعتبرة ، والغالب مع تلك الشروط الصدق وندرة الكذب ، فتقديم المصلحة الغالبة على المفسدة النادرة هو دأب صاحب الشرع ، كما جوز الشرع شهادة النساء منفردات في موضع لا يطلع عليه الرجال للضرورة ، ولأقوال الصحابة - رضي الله عنهم - . 
احتجوا بقوله تعالى : ( واستشهدوا شهيدين من رجـالكم    ) وهو منع لشهادة غير البـالغ ، وبقوله تعـالى : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم    ) والصبي ليس بعدل ، وبقوله تعالى : ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا    ) وهو نهي ، والنهي لا يتناول الصبي ، فدل على أنه ليس من الشهداء . ولأنه لا يلزمه إقراره فلا تعتبر شهادته كالمجنون ، ولأن الإقرار أوسع من الشهادة لقبوله من العبد والفاسق بخلاف الشهادة ، وقياسا على غير الجراح ، ولأنها لو قبلت لقبلت إذا افترقوا   [ ص: 211 ] كالرجال ، وليس فليس ، ولأنها لو قبلت لقبلت في تخريق ثيابهم في الخلوات أو لجازت شهادة النساء بعضهن على بعض في الجراح . 
والجواب عن الأول : أنه إنما يمنع الإناث لاندراج الصبيان مع الرجال في قوله تعالى : ( وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين    ) ولأن الأمر بالاستشهاد إنما يكون في المواضع التي يمكن استثناء الشهادة فيها اختيارا ; لأن من شرط النهي الإمكان ، وهذا موضع ضرورة تقع فيه الشهادة بغتة فلا يتناولها الأمر فتكون مسكوتا عنها . وهو الجواب عن الآية الثانية وقوله تعالى ، وعليه تحمل الآية الثالثة في الشهداء الذين استشهدوا اختيارا ، على أن هذه الظواهر عامة ، ودليلنا خاص فيقدم عليها . 
وعن الثاني : أن إقرار الصبي إن كان في المال فنحن نسويه بالشهادة لأنهما لا يقبلان ، وفي الدماء إن كان عمدا ، وعمده خطأ ، فيؤول إلى الدية فيكون إقراره على الغير فلا تقبل كإقرار البالغ . 
وعن الثالــث : الفرق أن الدماء حرمتها أعظم بدليل قبول القسامة ، ولا يقسم على درهم . 
وعن الــرابع : أن الافتراق يحتمل التعليم والتغيير ، والصغير إذا خلي وسجيته الأولى لا يكاد يكذب ، والرجال لهم وازع شرعي إذا افترقوا بخلاف الصبيان . 
وعن الخامــس : ما تقدم من مزيد حرمة الدماء ، ولأن اجتماعهم ليس لتخريق ثيابهم غالبا . بل للضرب والجراح . وأما النساء فلا يجتمعن للقتال ولا هو مطلوب منهن . 
تفريــع : قال القاضي في المعونة : إذا أجيزت فبتسعة شروط ، وستقف بعد هذا على اشتراط عدم شهادة الكبير معهم ، وأن يكون الموطن لا يحضره الكبار ،   [ ص: 212 ] وأن يكون المقتول حاضر الجسد ، فتكون الشروط اثني عشر : العقل ليفهموا ما رأوه ، والذكورة ; لأن الضرورة لا تحصل في اجتماع الإناث ، وروي عن  مالك     : تقبل شهادة الإناث  اعتبارا لهن بالبالغين لوثا ، ثم في القسامة والحرية ؛ لأن العبد لا يشهد ، والإسلام ; لأن الكافر لا يقبل في قتل أو جرح ; لأنه الذي تدعو الضرورة الشرعية إليه ، وقيل : يقبل في الجراح فقط ; لأنها شهادة ضعيفة فاقتصر فيها على أضعف الأمرين . وأن يكون ذلك بينهم لعدم ضرورة مخالطة الكبير لهم قبل التفريق لئلا يلقنوا الكذب ، واتفاق أقوالهم ; لأن الاختلاف يخل بالثقة ، اثنان فصاعدا لأنهم لا يكونون أحسن حالا من الكبار . قال  ابن يونس     : قال  محمد     : إذا قيدت شهادتهم قبل افتراقهم بالعدول لا يضر رجوعهم إلا أن يتراخى الحكم حتى يكبروا ويعدلوا فيؤخذوا برجوعهم إذا تيقنوا أنهم شهدوا بباطل . وقال   سحنون     : والفرق بينهم وبين الكبار : أن رجوع الكبار يدل على أنهم كانوا على باطل خوفا من عذاب الله تعالى ، والصبيان يرجعون لأهواء ، فأول أقوالهم هو الصحيح ، ولا تقدح في شهادتهم العداوة والقرابة لضعف مروءاتهم وحمايتهم ، فينطقون بما رأوا من غير مراعاة للقرابة والعداوة ، ومنعها  ابن القاسم  قياسا على الكبار ، ومنعها   ابن عبد الحكم  في القرابة دون العداوة ; لأن العداوة تكون لسبب وتزول ، فهي ضعيفة ، ولأنها لا غور لها عندهم ، والقرابة دائمة متأكدة ، ولا ينظر إلى جرحه اتفاقا ، وقال  محمد     : لا تجوز لكبير على صغير في الجراح ; لأنه بينهم فهو يحسهم ، ويجوز في قتله على الصبي لعدم التجنيب لأنه عدم ، وتجب الدية على عاقلة الجاني ، وقال  مالك     : إذا شهد صبيان وكبير على صبي أنه قتل صبيا  ، سقطت الصبيان ; لأن الكبير قد يخببهم ، قال  محمد     : ويقسم مع الكبير إن كان عدلا ، قال   سحنون     : ولا تجوز شهادة الصبيان حيث يحضر الكبار رجال أو نساء لأن النساء تجوز في الخطأ ، وعمد الصبي كالخطأ ، وحضور الكبار يسقطهم لعدم الضرورة إلا أن يكون الكبار ظاهري الجرحة ، وتوقف  ابن حبيب  في إجازتها حينئذ ، قال  ابن نافع  وغيره : إذا شهد صبيان على صبي أنه جرح صبيا ثم نزى في جرحه ومات ، فيه القسامة والدية . وقاله   سحنون  خلاف المدونة ،   [ ص: 213 ] وإنما يجب في المدونة دية الجرح فقط ، قال  مالك     : إذا لعب ستة صبيان في بحر فغرق واحد فشهد ثلاثة أن الاثنين غرقاه ، وشهد الاثنان أن الثلاثة غرقوه ، الدية على الخمسة لاختلاف الشهادة ، وقال  محمد     : هذا لا يقتسم ، وتسقط شهادتهم للاختلاف ، وقاله  مطرف  ، وقال : لو كانوا كبارا فاختلفواكانت الدية عليهم في أموالهم ; لأنه صار إقرارا كأنهم قالوا : لم تخرج الجناية عنا . قال  عبد الملك     : لو شهد صبيان بقتل صبي من صبي  ، وشهد آخرون أن القاتل ليس منهما ، بل دابته قتلته جبارا ، مضت الشهادة على القاتل ، وقيل : ذلك اختلاف يسقط الشهادة ، وإنما قاسه على الكبار ، وإن من أثبت حكمها أولى من نافيه ، قال  أصبغ     : ولو شهد كبيران أنا كنا حاضرين حتى سقط الصبي فمات ولم يقتله  ، لعدت شهادة الصبيان كما لو تعارض الكبار ها هنا [ . . . ] في القتل والحدود والطلاق والعتاق ; لأن المثبت أولى . وأنكره   سحنون     . وقال أصحابنا : يقدمون الكبيرين ، ولأن شهادة الصبيان تبطل بحضور الكبار  ، قال صاحب البيان عن  عبد الملك  وابن نافع     : تجوز شهادة صبي مع يمين المشهود له إذا بلغ  ، وقيل : يحلف والده عنه ويستحق ، وقيل : تجوز شهادة الإناث في القتل والجراح  ، وقيل : بل في الجراح دون القتل ، وهو قول  المخزومي  في المدونــة على أحد التأويلين ، وقيل : وحدهن دون صبي ، كما تجوز شهادة امرأتين دون رجل فيما لا يحضره الرجال  ، قاله  عبد الملك  ، وقال  مطرف     : لا بد من اثنين فيهن صبي ; لأن العادة أنهن يختلطن مع الصبيان ، واختلف في اشتراط عدم حضور الكبير من الصبيان ، وعدم اشتراطه ، وقال : هو ظاهر المدونة عندي ،   [ ص: 214 ] ووقع منع شهادة الصبيان مطلقا في النــوادر ، وقال غير واحد من أصحابنا : لا يجوز في القتل حتى يشهد العدول على رؤية البدن مقتولا تحقيقا للقتل ، قال  عبد الملك     : وأقل ما يجوز في شهادة الصبيان    : غلامان أو غلام وجاريتان ، ولا يجوز غلام وجارية ، وقال   سحنون     : ولا يحلف مع صبيين في قتل الخطأ ; لأنهما كشهادة غلام ، وقد جاء عن علي أنه أجاز شهادة الصبيان ، وهذا جمع فيه الذكور والإناث ، وعن  مالك     : تجوز شهادة الإناث ، وأقل ذلك : اثنتان مع صبي ، وإذا شهد صبيان أن صبيا قتل صبيا لزم العاقلة الدية بغير قسامة ; لأنهما كالكبير ، وإذا شهد اثنان من الصبيان أن فلانا الصبي شج فلانا الصبي ، وشهد آخران : إنما شجه فلان ، قال  مالك     : بطلت شهادتهم ، وقال  عبد الملك     : لا تبطل شهادة الصبيان إلا أن يشهد الكبار أن ما شهدوا به لم يكن عن معرفة ومعاينة ، أو شهدوا باختلاف قولهم ، أو أنهم افترقوا قبل الشهادة ، ولا تسقط بمثل هذا شهادة الكبار لقوة شهادتهم ، وإذا شهد الصبيان ثم شهد اثنان قبل الحكم وبعد البلوغ والعدالة : أن ما شهدنا به نحن والباقون باطل ، سقطت الشهادة كلها بشهادة العدول ببطلانها ، وقال   سحنون     : لا رجوع للصبي ولا ضمان عليه ، ولو رجع بعد البلوغ والحكم لم يضمن ; لأنها كانت في وقت توجب ضمانا ولا أدبا لو رجع . 
فـائدة : قال الأصحاب في هذه المسألة : تقبل شهادتهم قبل أن يخببوا ، مأخوذ من الخب الذي هو الخديعة ، لقول  عمر     - رضي الله عنه - : إياكم ورطانة الأعاجم فإنها خب   . أي تخدع من لا يعرفها فيتواطأوا على أذيته وهو لا يشعر ، ولقوله : لست بالخب والخب لا يخدعني . فكان تعليم الصبي أن يكذب ، ويجري شهادته خداع في الشهادة وحيلة على المشهود له . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					