ومن الحوادث العجيبة أن أكثم بن صيفي الحكيم لما سمع بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يأتيه فمنعه قومه .
أخبرنا إسماعيل بن أحمد بإسناده عن علي بن عبد الملك بن عمير ، عن أبيه قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه ، وقالوا:
أنت كبيرنا لم يكن لتخف إليه . قال: فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه ، فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي ، وهو يسألك من أنت ، وما أنت ، وبماذا أجبت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا محمد بن عبد الله ، وأنا عبد الله ورسوله ، ثم تلا عليهم هذه الآية: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون قالا: ردد علينا هذا القول ، فردده عليهم حتى حفظوه قال: فلما أتيا أكثم قالا: قد سألناه عن نسبه فوجدناه واسط النسب في مضر وقد رمى إلينا كلمات حفظناهن فلما سمعهن أكثم قال: يا قوم أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رؤساء ، ولا تكونوا أذنابا ، وكونوا فيه أولا ولا تكونوا فيه آخرا ، ولم يلبث أن حضرته الوفاة ، فأوصى فقال: أوصيكم [ ص: 371 ] بتقوى الله وصلة الرحم ، فإنها لا يبلى عليها أصل ، ولا يهيض عليها فرع ، وإياكم ونكاح الحمقى ، واعلموا أن سوء جهل الغني يورث سرحا ، وأن سوء جهل الفقير يضع الشرف ، وأن العدم عدم العقل لا عدم المال ، واعلموا أنه لن يهلك امرؤ عرف قدره ، واعلموا أن مقتل الرجل بين لحييه ، وأن قول الحق لم يترك لي صديقا .
وذكر أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري: أن أكثم بن صيفي سمع بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب إليه مع ابنه حبيش [: باسمك اللهم ، من العبد إلى العبد ، أما بعد: فبلغنا ما بلغك الله ، فقد بلغنا عنك خير ، فإن كنت أريت فأرنا ، وإن كنت علمت فعلمنا وأشركنا في خيرك والسلام .
فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: "من محمد رسول الله إلى أكثم بن صيفي ، أحمد الله إليك ، إن الله أمرني أن أقول لا إله إلا الله وليقر بها الناس ، والخلق خلق الله ، والأمر كله لله ، وهو خلقهم وأماتهم ، وهو ينشرهم وإليه المصير ، بأنبيائه المرسلين ، ولتسلن عن النبإ العظيم ، ولتعلمن نبأه بعد حين] .
فقال لابنه: ما رأيت منه ، قال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها .
[فجمع أكثم بني تميم ، وقال: لا تحقرن سفيها ، فإن من يسمع يخل ، وإن من يخل ينظر وإن السفيه واهي الرأي وإن كان قوي البدن ، ولا خير فيمن عجز رأيه ونقص عقله .
فلما اجتمعوا دعاهم إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام مالك بن عروة اليربوعي مع نفر من بني يربوع فقال: خرف شيخكم ، إنه ليدعوكم إلى الغبار ، ويعرضكم للبلاء ، وإن تجيبوه تفرق جماعتكم وتظهر أضغاثكم ، ويذلل عزكم ، مهلا مهلا . فقال أكثم بن صيفي: ويل للشجي من الخلي ، يا لهف نفسي على أمر لم أدركه ولم يفتني ما آسى عليك بل على العامة ، يا مالك إن الحق إذا قام دفع الباطل وصرع صرعى قياما ، فتبعه مائة من عمرو وحنظلة ، وخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما كان في بعض الطريق] عمد [ ص: 372 ] حبيش إلى رواحلهم فنحرها وشق ما كان معهم من مزادة وهرب ، فأجهد أكثم العطش فمات ، وأوصى من معه باتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأشهدهم أنه أسلم . فأنزل فيه: ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت ، فقد وقع أجره على الله .
[فهاتان الروايتان تدلان على أن أكثم بن صيفي أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد روينا أنه مات قبل ذلك] .
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: كان أكثم بن صيفي من كبار الحكماء ، وعاش مائتي سنة ، وله كلام مستحسن .
[فمنه: من عتب على الدهر طالت معتبته ، ومن رضي بالقسم طابت معيشته ، والدنيا دول ، فما كان منها لك أتاك على ضعفك ، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك ، والحسد داء ليس له شفاء ، من يصحب الزمان يرى الهوان ، ولم يفت من لم يمت ، وكل ما هو آت قريب ومن مأمنه يؤتى الحذر " خل الطريق لمن لا يضيق لوسع يجدأ ودع البر ينحو عليه العدو" كفوا ألسنتكم ، فإن مقتل الرجل بين فكيه ، وفي طلب المعالي تكون العزة ، ومن قنع بما هو فيه قرت عينه ، ولم يهلك من مالك ما وعظك ، لا تغضبوا من اليسير فإنه يجني الكثير ، وألزموا النساء المهنة ، وأكرموا الخيل ، ونعم لهو الحرة المغزل ، وحيلة من لا حيلة له الصبر ، المكثار حاطب ليل ، أشد الناس مئونة أشرافهم ، ومن التواني والعجز أنتجت الهلكة ، وأحوج الناس إلى الغنى من لم يصلحه إلا الغناء ، وحب المدح رأس الضياع ، ورضى الناس لا يدرك ، فتحر الخير بجهدك ، ولا تكره سخط من رضاه الجور ، معالجة العفاف مشقة ، فنعوذ بالصبر وآخر الغضب ، فإن القدرة من ورائك غي ، الصمت خير من عي المنطق ، خير القرناء المرأة الصالحة ، ليس للمختال في حسن الثناء نصيب ، ولا تمام لشيء من العجب ، [ ص: 373 ] ومن أتى المكروه إلى أحد فبنفسه بدأ ، وأقل الناس راحة الحسود ، يا بني سودوا أعقلكم ، فإن أمر مسير القوم إذا لم يك عاقلا كان آفة لمن دونه ، والتفاضل من فعل الكرام ، والصدق في بعض المواطن عجز ، والمن يذهب للصنيعة ، ومن سلك الجدد أمن العثار ، ومن شدد تفر ، ولقاء الأحبة مسلاة للهم ، ومن ظلم يتيما ظلم أولاده ، من سل سيف البغي أغمد في رأسه] .