الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن الأحداث في زمان عيسى عليه السلام نزول المائدة :

أخبرنا هبة بن محمد بن الحصين ، قال: أخبرنا أبو طالب: محمد بن غيلان ، قال: أخبرنا أبو بكر: محمد بن عبد الله الشافعي ، قال: حدثنا أحمد بن يوسف ، قال: أخبرنا بحر بن نصر ، قال: أخبرنا عافية بن أيوب ، عن سعيد بن عبد العزيز بن أبي عثمان المهدي ، عن سلمان الفارسي ، قال: لما سأل الحواريون عيسى أن ينزل الله تعالى لهم المائدة ، قام عيسى فألقى الصوف عنه ولبس الشعر والتحفه ، ووضع يمينه على شماله ووضعهما على صدره ، وصف بين قدميه وألصق الكعب بالكعب والإبهام بالإبهام ، وخفض رأسه خاشعا ، ثم أرسل عينه بالبكاء حتى سالت الدموع على لحيته ، وجعلت تقطر على صدره ، وقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا فيكون عطية منك لنا علامة منك وبيننا وبينك ، وارزقنا عليها طعاما نأكله .

قال: فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة من فوقها ، وغمامة من تحتها ، وهم ينظرون إليها تهوي منقضة في الهواء ، وعيسى يبكي ويقول: إلهي اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا . حتى استقرت بين يدي عيسى والناس حوله يجدون ريحا طيبة لم [ ص: 35 ] يجدوا مثلها قط ، فخر عيسى ساجدا لله عز وجل وخر الحواريون معه ، فبلغ ذلك اليهود فأقبلوا ينظرون ، فرأوا أمرا عجيبا ، وإذا منديل مغطى على السفرة ، فجاء عيسى فجلس فقال: من أجرأنا [ و ] أوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء وأوثقنا عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر ونأكل ؟ فقال الحواريون : أنت أولى بذلك يا روح الله وكلمته .

قال: فتوضأ عيسى وضوءا جديدا ودعا ربه دعاء كثيرا وبكى بكاء طويلا ، ثم قام حتى جلس عند السفرة ، فإذا سمكة ليس فيها شوك وقد رصت حولها من البقول ، وإذا عند رأسها خل وعند ذنبها ملح وخمسة أرغفة ، على كل واحد منها زيتون وخمس رمانات ، فقال شمعون رأس الحواريين : يا روح الله ، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى : سبحان الله ، أما تنتهون ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا . فقال شمعون : لا [ والله ] إله بني إسرائيل ما أردت بهذا سوءا قال عيسى : ليس ما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ، إنما هو شيء ابتدعه الله عز وجل [ بالقدرة ] فقال له: كن فكان ، فكلوا ما سألتم واحمدوا عليه ربكم .

فقالوا: يا روح الله ، إن أريتنا [ اليوم ] آية من هذه السمكة ، فقال: يا سمكة احيي بإذن الله تعالى . فاضطربت السمكة طرية ، تدور عيناها تبصبص ، تلمظ بفيها كما يتلمظ السبع . ثم قال: عودي كما كنت بإذن الله . فعادت مشوية في حالها .

فقالوا: يا روح الله ، كن أنت أول من يأكل منها ، فقال: معاذ الله أن آكل منها ، ولكن يأكل منها من سألها ، فعرف الحواريون [ أن تكون ] إنما أنزلت سخطة ، فلم [ ص: 36 ] يأكلوا ، فدعا لها عيسى أهل الفاقة ، والزمانة والعميان ، والمجذومين ، والبرص ، والمقعدين ، وأصحاب الماء الأصفر ، والمجانين والمختلين ، فقال: كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ليكون المهنأ لكم والبلاء و [ العقوبة ] لغيركم .

فصدر عنها ألف وثلاثمائة رجل [ وامرأة ] كلهم شبعان يتجشأ ، وإذا ما عليها كهيئته حين نزلت من السماء . ورفعت السفرة إلى السماء وهم ينظرون إليها ، فاستغنى كل فقير أكل منها يومئذ ، وبرأ كل زمن من زمانته ، وندم الحواريون وسائر من أبى أن يأكل منها ، فكانت إذا نزلت بعد ذلك أقبلوا إليها من كل مكان ، الأغنياء والفقراء ، والرجال والنساء ، والمرضى والأصحاء . فلما رأى عيسى ذلك جعلها نوبا بينهم ، وكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما .

فلبثت كذلك أربعين صباحا تغيب يوما وتنزل يوما يؤكل منها ، حتى إذا فاء الفيء ارتفعت إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها حتى توارى عنهم ، فأوحى الله إلى عيسى : أن اجعل مائدتي رزقا لليتامى والزمنى دون الأغنياء من الناس . فلما فعل ذلك بهم عظم على الأغنياء ، وأذاعوا القبيح حتى شكوا وشككوا الناس ، حتى قال قائلهم: يا روح الله ، بحق أنها تنزل من عند الله ؟ فقال [ عيسى ]: ويحكم هلكتم ، سترون العذاب إن لم يرحمكم الله تعالى .

فأوحى الله تعالى إلى عيسى ابن مريم عليه السلام : إني آخذ بشرطي من [ ص: 37 ] المكذبين الذين اشترطت عليهم أني معذب من كفر منهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين . فمسخ الله تعالى منهم ثلاثة وثلاثين خنازير من ليلتهم ، فأصبحوا يأكلون ما في الحشوش ويأتون إلى عيسى [ عليه السلام ] فينظرون إليه وأعينهم تسيل دمعا ، فيقول عيسى : يا فلان يا فلان ، قد كنت أخوفكم عذاب الله وعقوبته ، وسأل ربه أن يميتهم ، فأماتهم بعد ثلاثة أيام .

التالي السابق


الخدمات العلمية