الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان دقائق الآداب الباطنة في الزكاة .

اعلم أن على مريد طريق الآخرة بزكاته وظائف .

الوظيفة الأولى : فهم وجوب الزكاة ومعناها ووجه الامتحان فيها وأنها لم جعلت من مباني الإسلام مع أنها تصرف مالي وليست من عبادة الأبدان وفيه ثلاثة معان .

الأول أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد وشهادة بإفراد المعبود وشرط تمام الوفاء به أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد فإن المحبة لا تقبل الشركة والتوحيد باللسان قليل الجدوى وإنما يمتحن به درجة المحب بمفارقة المحبوب والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت مع أن فيه لقاء المحبوب فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم ولذلك قال الله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وذلك بالجهاد وهو مسامحة بالمهجة شوقا إلى لقاء الله عز وجل

التالي السابق


(بيان دقائق الآداب الباطنة في الزكاة)

وما فيها من الاعتبار لمن يعتبره من أهله .

قال رحمه الله: (اعلم أن على مريد طريق الآخرة بزكاته) إن وجبت عليه (وظائف) ثمانية (الأولى: فهم وجوب الزكاة) بالكتاب والسنة والإجماع شرعا وعقلا، (ومعناها) الذي هو التطهير والتقديس والتنمية (ووجه الامتحان) من الله (فيها وأنها لم جعلت من مباني الإسلام) الخمسة (مع أنها تصرف مالي وليس من عبادات الأبدان) كقرنائها من الصلاة والحج والصوم (وفيه ثلاثة معان) التزام العقد والتطهير والشكر، ويتعين على كل موجود ذلك، واعتباره (الأول) من المعاني الثلاثة، اعلم أن (التلفظ بكلمتي الشهادة) الذي هو أول الأركان الخمسة المبني عليها الإسلام هو (التزام للتوحيد) الخالص (وشهادة بإفراد المعبود) على الشريك والشبيه وكل ما لا يليق به، وهو مفاد إحدى الكلمتين، (وشرط تمام الوفاء به) أي: بهذا الالتزام، وفي بعض النسخ "بها" أي: بتلك الشهادة (أن لا يبقى للموحد) في عقد ضميره (محبوب) يميل إليه (سوى الواحد الفرد) جل جلاله (فإن المحبة لا تقبل الشركة) أي: الاشتراك، والمراد بها الاختيارية، وأما الاضطرارية فالإنسان مجبول فيها إلى ما يستلذه طبعا، ولا تكون المحبة كاملة حتى تكون مع المحبوب اضطرارا واختيارا؛ فحينئذ لا يخطر بباله شيء سواء، وإن خطر ما عداه فيعد من جملة مظاهره وتعيناته (والتوحيد باللسان) من غير عقد القلب على التغريد (قليل الجدوى) في حكم الأخرى، وإن صير به عرضه ودمه في حكم الدنيا، (وإنما يمتحن درجة الحب بمفارقة المحبوبات) والمستلذات النفسية اضطرارا واختيارا (والأموال) التي جعلها الله نعما بأصنافها (محبوبة عند الخلق) يميلون إليها بالطبع والاضطرار، وإنما قرنت بالأولاد في قوله: إنما أموالكم وأولادكم فتنة لتساوي المحبة فيهما، ثم قال: والله عنده أجر عظيم أي: إذا رزأكم في شيء منهما، والزكاة وإن كانت مطهرة من البخل فهي رزء في المال فله أجر المصاب، وهو من أعظم الأجور .

قال عيسى عليه السلام: اجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء؛ لأن قلب كل إنسان حيث ماله، وإنما سمي المال مالا لميل النفوس إليه، وإنما مالت النفوس إلى الأموال (لأنها آلة تمتعهم بالدنيا) وبها تقضى حاجاتهم، والإنسان مجبول على الحاجة؛ لأنه فقير بالذات، فمال إليها بالطبع الذي لا ينفك عنه، ولو كان الزهد في المال حقيقة لم يكن مالا، ولكان الزهد في الآخرة أتم مقاما من الزهد في الدنيا، وليس الأمر كذلك، ولكونها من الخيرات المتوسطة جاء في الخبر: نعم المال الصالح للرجل الصالح، وقال طلحة رضي الله عنه في دعائه: اللهم ارزقني مجدا ومالا. فلا يصلح المجد إلا بالمال ولا يصلح المال إلا بمراعاة المجد، وقال بعضهم: الفقير مقصوص الجناح. وذلك [ ص: 102 ] لأن المال للغني كالجناح للطائر يطير به كيف شاء، وكذلك الغني يدرك به لذات نفسه كيف شاء بخلاف الفقير، فإنه لا يقدر درك أوطاره؛ ولذلك قال بعضهم في قوله تعالى: وريشا ولباس التقوى أن المراد بالريش هنا المال، (وبسببها) أي: تلك الأموال (يأنسون بهذا العالم) في تحصيل أغراضهم (وينفرون عن الموت) أشد النفرة، حتى عن ذكره (مع أن فيه) أي: الموت (بقاء المحبوب) ؛ ولذا قيل: الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب، وفي الخبر: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (فامتحنوا بتصديق دعواهم) بالمحبة (في المحبوب فاستنزلوا عن) خصم (المال الذي هو مرموقهم) أي: منظورهم (ومعشوقهم) بالطبع، والصبر على فقد المحبوب من أعظم الصبر، ولا يصبر عليه إلا مؤمن أو عارف؛ فإن الزاهد لا زكاة عليه؛ لأنه ما ترك له شيئا تجب فيه الزكاة، والعارف ليس كذلك؛ لأنه يعلم أن فيه من حيث ما هو مجموع العالم من يطلب المال فيوفيه حقه فتجب عليه الزكاة من حيث ذلك الوجه، وهو زاهد من وجه آخر؛ فالعارفون هم الكمل من الرجال، فلهم الزهد والادخار والتوكل وإثبات الأسباب، ولهم المحبة في جميع العالم كله، ولا يقدح حبه للمال والدنيا في حبه لله والآخرة؛ فإنه ما يحبه منه لأمر ما إلا ما يناسب ذلك الأمر من العوالم؛ (ولذلك قال الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ) الآية، (وذلك بالجهاد) في سبيله (وهو مسامحة بالمهجة) أي: النفس (شوقا إلى لقاء الله) وإعلاء لكلمة الله .




الخدمات العلمية