الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 99 ] باب البغاة

التالي السابق


( باب البغاة ) قدم أحكام قتال الكفار ثم أعقبه بقتال المسلمين ، والوجه ظاهر . والبغاة جمع باغ ، وهذا الوزن مطرد في كل اسم فاعل معتل اللام كغزاة ورماة وقضاة . والبغي في اللغة : الطلب ، بغيت كذا : أي طلبته ، قال تعالى حكاية ذلك { ما كنا نبغ } ثم اشتهر في العرف في طلب ما لا يحل من الجور والظلم . والباغي في عرف الفقهاء : الخارج عن طاعة إمام الحق . والخارجون عن طاعته أربعة أصناف : أحدها الخارجون بلا تأويل بمنعة وبلا منعة يأخذون أموال الناس ويقتلونهم ويخيفون الطريق وهم قطاع الطريق . والثاني قوم كذلك إلا أنهم لا منعة لهم [ ص: 100 ] لكن لهم تأويل ، فحكمهم حكم قطاع الطريق ، إن قتلوا قتلوا وصلبوا ، وإن أخذوا مال المسلمين قطعت أيديهم وأرجلهم على ما عرف . والثالث قوم لهم منعة وحمية خرجوا عليه بتأويل يرون أنه على باطل كفر أو معصية يوجب قتاله بتأويلهم ، وهؤلاء يسمون بالخوارج يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويسبون نساءهم ويكفرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحكمهم عند جمهور الفقهاء وجمهور أهل الحديث حكم البغاة .

وعند مالك يستتابون ، فإن تابوا وإلا قتلوا دفعا لفسادهم لا لكفرهم . وذهب بعض أهل الحديث إلى أنهم مرتدون لهم حكم المرتدين لقوله صلى الله عليه وسلم { يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة } رواه البخاري . وعن { أبي أمامة أنه رأى رءوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال : كلاب أهل النار كلاب أهل النار كلاب أهل النار ، وقد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا . قيل يا أبا أمامة هذا شيء تقوله ؟ قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم } . قال ابن المنذر : ولا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم ، وهذا يقتضي نقل إجماع الفقهاء . وذكر في المحيط أن بعض الفقهاء لا يكفر أحدا من أهل البدع ، وبعضهم يكفرون بعض أهل البدع وهو من خالف ببدعته دليلا قطعيا ونسبه إلى أكثر أهل السنة ، والنقل الأول أثبت ، نعم يقع في كلام أهل المذاهب تكفير كثير ولكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون بل من غيرهم ، ولا عبرة بغير الفقهاء ، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا ، وابن المنذر أعرف بنقل مذاهب المجتهدين ، وما ذكره محمد بن الحسن في أول الباب من حديث كثير الحضرمي يدل على عدم تكفير الخوارج .

وهو قول الحضرمي : دخلت مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة ، فإذا نفر خمسة يشتمون عليا رضي الله عنه وفيهم رجل عليه برنس يقول : أعاهد الله لأقتلنه ، فتعلقت به وتفرقت أصحابه عنه ، فأتيت به عليا رضي الله عنه فقلت : إني سمعت هذا يعاهد الله ليقتلنك ، فقال : ادن ويحك من أنت ؟ فقال : أنا سوار المنقري ، فقال علي رضي الله عنه : خل عنه ، فقلت أخلي عنه وقد عاهد الله ليقتلنك ؟ قال : أفأقتله ولم يقتلني ؟ قلت : فإنه قد شتمك ، قال : فاشتمه إن شئت أو دعه . ففي هذا دليل على أن ما لم يكن للخارجين منعة لا نقتلهم ، وأنهم ليسوا كفارا لا بشتم علي ولا بقتله . قيل إلا إذا استحله ، فإن من استحل قتل مسلم فهو كافر ، ولا بد من تقييده بأن لا يكون القتل بغير حق أو عن تأويل واجتهاد يؤديه إلى الحكم بحله ، بخلاف المستحل بلا تأويل ، وإلا لزم تكفيرهم ; لأن الخوارج يستحلون القتل بتأويلهم الباطل ، ومما يدل على عدم تكفيرهم ما ذكره محمد أيضا حيث قال : وبلغنا عن علي رضي الله عنه أنه بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ حكمت الخوارج من ناحية المسجد ، فقال علي رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل ، لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولن نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ، ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا ، ثم أخذ في خطبته . ومعنى قوله حكمت الخوارج نداؤهم بقولهم الحكم لله ، وكانوا يتكلمون بذلك إذا أخذ علي في الخطبة ليشوشوا خاطره ، فإنهم كانوا يقصدون بذلك نسبته إلى الكفر لرضاه بالتحكيم في صفين ، ولهذا قال علي رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل : يعني تكفيره .

وفيه دليل أن الخوارج إذا قاتلوا الكفار مع أهل العدل يستحقون من الغنيمة مثل ما يستحقه غيرهم من المسلمين ، وأنه لا يعزر بالتعريض بالشتم ; لأن نسبته إلى الكفر شتم عرضوا به ولم يصرحوا . والرابع قوم مسلمون خرجوا على إمام العدل [ ص: 101 ] ولم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من دماء المسلمين وسبي ذراريهم وهم البغاة .




الخدمات العلمية