الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 253 ] قال ( وإذا ) ( أوجب ) أحد المتعاقدين البيع فالآخر بالخيار إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رد ، وهذا خيار القبول ; لأنه لو لم يثبت له الخيار يلزمه حكم البيع من غير رضاه ، وإذا لم يفسد لحكم بدون قبول الآخر فللموجب أن يرجع عنه قبل قبوله لخلوه عن إبطال حق الغير ، وإنما يمتد إلى آخر المجلس ; لأن المجلس جامع المتفرقات فاعتبرت ساعاته ساعة واحدة دفعا للعسر وتحقيقا لليسر ، [ ص: 254 ] والكتاب كالخطاب ، وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب [ ص: 255 ] وأداء الرسالة ، وليس له أن يقبل في بعض المبيع ولا أن يقبل المشتري ببعض الثمن لعدم رضا الآخر بتفرق [ ص: 256 ] الصفقة ، إلا إذا بين كل واحد ; لأنه صفقات معنى . قال ( وأيهما قام عن المجلس قبل القبول بطل الإيجاب ; لأن القيام دليل الإعراض ) والرجوع ، وله ذلك على ما ذكرناه .

التالي السابق


( قوله وإذا أوجب أحد المتعاقدين البيع فالآخر بالخيار ، وهذا خيار القبول إن شاء قبل وإن شاء رده ) وللموجب أيهما كان بائعا ومشتريا أن يرجع قبل قبول الآخر عن [ ص: 254 ] الإيجاب ; لأنه لم يثبت له حق يبطله الآخر بلا معارض أقوى ; لأن الثابت له بعد الإيجاب حق التملك ، والموجب هو الذي أثبت له هذه الولاية فله أن يرفعها كعزل الوكيل ; ولو سلم فلا يعارض حق التملك حقيقة الملك ، فلو لم يجز الرجوع لزم تعطيل حق الملك بحق التملك ، ودلالة الإجماع تنفيه ; ألا يرى أن للأب حق التملك لمال ولده عند الحاجة وقبل تملكه بالفعل كان للولد أن يتصرف فيه كيف شاء ، ولو صادف رد البائع قبول المشتري بطل . وأورد في الكافي الزكاة المعجلة ليس له حق استردادها لثبوت حق التملك للفقير . وحاصل جوابه أن الأصل الموجب للدفع قائم وهو النصاب ، وإنما الفائت وصفه وهو النماء فبعد أخذ السبب حكمه تم الأمر ، وفيما نحن فيه لم يوجد الأصل بل شطره فلا يكون البيع موجودا . وله أن يقبل ما دام المجلس قائما ، فإن لم يقبل حتى اختلف المجلس لا ينعقد ، واختلافه باعتراض ما يدل على الإعراض من الاشتغال بعمل آخر ونحوه . أما لو قام أحدهما ولم يذهب فظاهر الهداية وعليه مشى جمع أنه لا يصح القبول بعد ذلك . وإليه ذهب قاضي خان حيث قال : فإن قام أحدهما بطل : يعني الإيجاب ; لأن القيام دليل الإعراض .

فإن قيل : الصريح أقوى من الدلالة ، فلو قال بعد القيام قبلت ينبغي أن لا يثبت الإعراض . قلنا : الصريح إذا كان أقوى ويعمل إذا بقي الإيجاب بعد قيامه ، وهنا لم يبق فإن الأصل أن لا يبقى اللفظ بعد الفراغ منه ، ولا يجتمع قوله قبلت به إلا أن للمجلس أثرا في جمع المتفرقات وبالقيام لا يبقى المجلس . وقال شيخ الإسلام في شرح الجامع : إذا قام البائع ولم يذهب عن ذلك المكان ثم قبل المشتري صح ، وإليه أشير في جمع التفاريق ، وهذا شرح لقوله فيما يأتي وأيهما قام إلى آخره ، وعلى اشتراط اتحاد المجلس ما إذا تبايعا ، وهما يمشيان أو يسيران لو كانا على دابة واحدة فأجاب الآخر لا يصح لاختلاف المجلس في ظاهر الرواية ، واختار غير واحد كالطحاوي وغيره أنه إن أجاب على فور كلامه متصلا جاز . وفي الخلاصة عن النوازل : إذا أجاب بعدما مشى خطوة أو خطوتين جاز ولا شك أنهما إذا كانا يمشيان مشيا متصلا لا يقع الإيجاب إلا في مكان آخر بلا شبهة ، ولو كان المخاطب في صلاة فريضة ففرغ منها وأجاب صح ، وكذا لو كان في نافلة فضم إلى ركعة الإيجاب أخرى ثم قبل جاز ، بخلاف ما لو أكملها أربعا . ولو كان في يده كوز فشرب ثم أجاب جاز ، وكذا لو أكل لقمة لا يتبدل المجلس إلا إذا اشتغل بالأكل ، ولو ناما جالسين لا يختلف ، ولو مضطجعين أو أحدهما فهي فرقة . والسفينة كالبيت ، فلو عقدا وهي تجري فأجاب الآخر لا ينقطع المجلس بجريانها ; لأنهما لا يملكان إيقافها . وقيل يجوز في الماشيين أيضا ما لم يتفرقا بذاتيهما ، أما المسير بلا افتراق فلا ، وهكذا في خيار المخيرة بخلاف سجدة التلاوة ، ولو قال بعتك بألف ثم قال لآخر بعتك بألف فقبلا فهي للثاني لا للأول .

ولو قال بعتكه بكذا فلم يقبل حتى قام البائع في حاجة بطل ( قوله والكتاب كالخطاب ، وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب [ ص: 255 ] وأداء الرسالة ) فصورة الكتاب أن يكتب : أما بعد ، فقد بعت عبدي منك بكذا . فلما بلغه الكتاب وفهم ما فيه قال قبلت في المجلس انعقد ، والرسالة أن يقول : اذهب إلى فلان وقل له إن فلانا باع عبده فلانا منك بكذا فجاء فأخبره فأجاب في مجلسه ذلك بالقبول .

وكذا إذا قال بعت عبدي فلانا من فلان بكذا فاذهب يا فلان فأخبره فذهب فأخبره فقبل ، وهذا لأن الرسول ناقل ، فلما قبل اتصل لفظه بلفظ الموجب حكما ، فلو بلغه بغير أمره فقبل لم يجز ; لأنه ليس رسولا بل فضوليا ، ولو كان قال بلغه يا فلان فبلغه غيره فقبل جاز .

ولو كان المكتوب بعنيه بكذا فكتب بعتكه لا يتم ما لم يقل الأول قبلت . وأما ما ذكر في المبسوط : لو كتب إليه يعني بكذا فقال بعته يتم البيع ، فليس مراد محمد هنا من هذا سوى الفرق بين النكاح والبيع في شرط الشهود لا بيان اللفظ الذي ينعقد به البيع . وقيل بالفرق بين الحاضر والغائب فبعني من الحاضر يكون استياما عادة ، وأما من الغائب بالكتابة فيراد به أحد شطري العقد ، هذا ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله سواء علم الآخر أو لم يعلم ، حتى لو قبل الآخر بعد ذلك لا يتم البيع ، بخلاف ما لو وكل بالبيع ثم عزل الوكيل قبل البيع فباع الوكيل ، فإنه ما لم يعلم الوكيل بالعزل قبل البيع فبيعه نافذ ، وعلى هذا الجواب في الإجارة والهبة والكتابة ، فأما الخلع والعتق على مال فإنه يتوقف شطر العقد في حق المرأة والعبد بالإجماع إذا كانا غائبين على القبول في مجلس بلوغ الخبر ، بخلاف العكس وهو أن تقول المرأة خالعت زوجي وهو غائب ، أو يقول العبد قبلت عتق سيدي الغائب على ألف فإنه لا يتوقف بالإجماع .

وفي النكاح مر الخلاف ; فعند أبي يوسف يتوقف وعندهما لا ( قوله وليس له أن يقبل إلى آخره ) يعني إلا أن يرضى الآخر بذلك بعد قبوله في البعض ، ويكون المبيع مما ينقسم الثمن عليه بالإجزاء كعبد واحد أو مكيل أو موزون ، فإن كان مما لا ينقسم إلا بالقيمة كثوبين وعبدين لا يجوز وإن قبل الآخر . ولنتكلم على عبارة الكتاب هنا فإنها مما وقع فيها تجاذب فنقول : الظاهر من نظم الكلام أن ضمير له في وقوله وليس له راجع إلى أحد المتعاقدين في قوله : وإذا أوجب أحد المتعاقدين البيع أو للآخر وحينئذ يكون أعم من البائع والمشتري ، فمعناه في البائع : أنه إذا أوجب المشتري البيع بأن قال اشتريت هذه الأثواب أو هذا الثوب بعشرة ، فليس للبائع أن يقبل في بعض المبيع من أثواب أو الثوب لعدم رضا الآخر بتفريق الصفقة ; لأنه قد يتعلق غرضه بالجملة بسبب حاجته إلى الكل ويعسر عليه تحصيل باقي الأثواب لعزتها وبعضها لا يقوم بحاجته ، فلو ألزمناه البيع في البعض انصرف ماله ولم تندفع حاجته وغير ذلك من الأمور . وأما في المشتري فمعناه : إذا أوجب البائع [ ص: 256 ] المبيع فليس للمشتري أن يقبل في بعضه إذ قد يتضرر بتفريق الصفقة ; لأن العادة أن يضم البائعون الجيد إلى الرديء ليروجونه . فلو ألزمناه البيع بقي الرديء وذهب ما يروجه به فيتضرر بذلك .

ومعلوم أن القبول في بعض المبيع يكون ببعض الثمن فحذفه المصنف للعلم به لكن على هذا لا حاجة لقوله ولا أن يقبل المشتري ببعض الثمن ; لأن ذلك يستفاد من العبارة الأولى بطريق الدلالة فلزم كون الضمير للبائع ولفظ المشتري بالبناء للفاعل لتصحيح كلامه ، أي وليس للبائع أن يقبل في بعض المبيع الذي أوجب فيه المشتري البيع ، ولا أن المشتري يقبل المشترى في بعض المبيع فيما إذا كان الموجب هنا البائع .

والحاصل أن عدم صحة القبول في البعض للزوم تفريق الصفقة فوجب أن يعرف بماذا يثبت اتحادها وتفريقها فاعلم أنه يكون تارة من تعدد القابل وتارة من غيره . فما من تعدد القابل امتناعه لما فيه من [ ص: 257 ] إلزام الشركة .

مثاله أن يقول البائع لمشتريين بعتكما هذا بألف فقال أحدهما اشتريت دون الآخر تعددت ; فلا يلزم لأنه لو تم في الصف ; لأنه إنما خاطبهما بالكل فكان مخاطبا كلا بالنصف ، فلو لزم صار شريكا للبائع فدخل عليه عيب الشركة بلا رضاه ، وكذا لو قال رجل لمالكي عين اشتريت منكما هذه بألف فباعه أحدهما دون الآخر فإن بيعه إنما يتم في نصيبه فتعددت ، فلو تم تضرر المشتري الموجب بالشركة أيضا ، وأما إذا كان الموجب اثنين خاطبا واحدا فقالا بعناك أو اشترينا منك هذا بكذا فأجاب هو في بعضه لا يلزم ، لكن لا لتعددها بتعدد العاقد بل لإجابته في البعض ; ألا ترى أن الموجب فيها لو كان واحدا والباقي بحاله كان من تعدد الصفقة أيضا ، فعرف أن هذا من جهة أخرى لا من تعدد العاقد ، وأما من غيره فبصورتين : إحداهما أن يوجب البائع في مثليين أو واحد قيمي أو مثلي فقبل في البعض أو يوجب المشتري فيما ذكرناه بأن يقول اشتريت منك بكذا فقبل البائع في البعض فإن في كل منهما الصفقة واحدة ، فإذا قبل في بعضهما فرقها فلا يصح ، فلو كان بين ثمن كل منهما فلا يخلو إما أن يكون بلا تكرار لفظ البيع أو بتكراره ، ففيما إذا كرره فالاتفاق على أنه صفقتان ، فإذا قبل في أحدهما يصح مثل أن يقول بعتك هذين العبدين بعتك هذا بألف وبعتك هذا بألف أو اشتريت منك هذين العبدين اشتريت هذا بألف واشتريت هذا بألف كذا في موضع ، وفي موضع أن يقول بعتك هذين بعتك هذا بألف وهذا بألفين وفيما إذا لم يكرره مثل بعتك هذين هذا بمائة وهذا بمائة فظاهر الهداية أنه صفتان وبه قال بعضهم . وقال آخرون صفقة واحدة ، وأن مراد صاحب الهداية إذا كرر لفظ البيع ; فأما إذا لم يكرره ، وقد اتحد الإيجاب والقبول والعاقد ، ولم يتعدد الثمن فالصفقة واحدة قياسا واستحسانا ، فليس له أن يقبل في أحدهما .

وقيل الأول استحسان وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه ، والثاني قياس وهو قولهما . والوجه الاكتفاء بمجرد تفريق الثمن ; لأن الظاهر أن فائدته ليس إلا قصده بأن يبيع منه أيهما شاء ، وإلا فلو كان غرضه أن لا يبيعهما منه إلا جملة لم تكن فائدة لتعين ثمن كل منهما




الخدمات العلمية