الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 129 ] ( وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم تدفع إليه حتى يقيم البينة . فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها إليه ولا يجبر على ذلك في القضاء ) . وقال مالك والشافعي رحمهما الله تعالى : يجبر ، والعلامة مثل أن يسمي وزن الدراهم وعددها ووكاءها ووعاءها . لهما أن صاحب اليد ينازعه في اليد ولا ينازعه في الملك ، فيشترط الوصف لوجود المنازعة من وجه ، ولا تشترط إقامة البينة لعدم المنازعة من وجه .

ولنا أن اليد حق مقصود كالملك فلا يستحق إلا بحجة وهو البينة اعتبارا بالملك إلا أنه يحل له الدفع عند إصابة العلامة لقوله عليه الصلاة والسلام { فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها فادفعها إليه } وهذا للإباحة عملا بالمشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام { البينة على المدعي } الحديث [ ص: 130 ] ويأخذ منه كفيلا إذا كان يدفعه إليه استيثاقا ، وهذا بلا خلاف ، لأنه يأخذ الكفيل لنفسه ، بخلاف التكفيل لوارث غائب عنده . وإذا صدق قيل لا يجبر على الدفع كالوكيل بقبض الوديعة إذا صدقه .

وقيل يجبر لأن المالك هاهنا غير ظاهر والمودع مالك ظاهرا ، [ ص: 131 ] ولا يتصدق باللقطة على غني لأن المأمور به هو التصدق لقوله عليه الصلاة والسلام { فإن لم يأت } يعني صاحبها ، { فليتصدق به } والصدقة لا تكون على غني فأشبه الصدقة المفروضة ( وإن كان الملتقط غنيا لم يجز له أن ينتفع بها ) وقال الشافعي : يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي رضي الله عنه { فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها } وكان من المياسير ، ولأنه إنما يباح للفقير حملا له على رفعها صيانة لها والغني يشاركه فيه .

ولنا مال الغير فلا يباح الانتفاع به إلا برضاه لإطلاق النصوص والإباحة للفقير لما رويناه ، أو بالإجماع فيبقى ما وراءه على الأصل ، والغني محمول على الأخذ لاحتمال افتقاره في مدة التعريف ، والفقير قد يتوانى لاحتمال استغنائه فيها [ ص: 132 ] وانتفاع أبي رضي الله عنه كان بإذن الإمام وهو جائز بإذنه ( وإن كان الملتقط فقيرا فلا بأس بأن ينتفع بها ) لما فيه من تحقيق النظر من الجانبين ولهذا جاز الدفع إلى فقير غيره ( وكذا إذا كان الفقير أباه أو ابنه أو زوجته وإن كان هو غنيا ) لما ذكرنا ، والله أعلم .

التالي السابق


( قوله وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم تدفع إليه حتى يقيم البينة ، فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها إليه ولا يجبر على ذلك بالقضاء . وعند مالك والشافعي )

وأحمد ( يجبر ) وإعطاء علامتها أن يخبر عن وزنها وعددها ووكائها ويصيب في ذلك . والحق أن قول الشافعي كقولنا ، والموجب للدفع مالك وأحمد ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرج مسلم في حديث أبي بن كعب { عرفها ، فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووكائها ووعائها فأعطه إياها وإلا فاستمتع بها } وأخرجه أيضا عن زيد بن خالد الجهني وفيه { فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها ووكاءها وعددها فأعطها إياه وإلا فهي لك } وأيضا ( فإن صاحب اليد ) وهو الملتقط ( إنما ينازعه في اليد لا في الملك ) لأنه لا يدعيه فكانت منازعته من وجه دون وجه ، فيشترط ما هو حجة من وجه لا من كل وجه وفي الوصف المطابق ذلك فاكتفى به ( ولا يشترط البينة لعدم منازعته ) من الوجهين جميعا ( ولنا أن اليد حق مقصود كالملك ) حتى أن غاصب المدبر يضمن قيمته ولم يفوت غير اليد فيكون مثله لا يستحق إلا بالبينة غير أنا أبحنا له الدفع عند إصابة العلامة بالحديث الذي رووه على أن الأمر فيه للإباحة جمعا بينه وبين الحديث المشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم { البينة على المدعي واليمين على من أنكر } ويأتي إن شاء الله تعالى في الدعوى ، [ ص: 130 ] والمدعي هنا صاحب اللقطة فعليه البينة ، ثم إذا دفعها بالعلامة فقط يأخذ منه كفيلا استيثاقا .

قال المصنف ( وهذا بلا خلاف ، لأنه يأخذ الكفيل لنفسه ، بخلاف التكفيل لوارث غائب عنده ) أي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيما إذا قسمت التركة بين الغرماء أو الورثة لا يؤخذ من الغريم ولا من الوارث كفيل عنده ، وعندهما يؤخذ .

والفرق لأبي حنيفة أن حق الحاضر هنا غير ثابت فيمكن أن يكون المالك غيره فيجيء ويتوارى الآخذ فيحتاط بالكفيل بخلاف الميراث فإن حق الحاضر معلوم ثابت ، وكون غيره أيضا له حق أمر موهوم فلا يجوز تأخير الحق الثابت إلى زمان تحصيل الكفيل بحق موهوم ، وهذا يدل على أن دفع الملتقط لو كان بالبينة لا يأخذ كفيلا وهو الصحيح . وذكر في جامع قاضي خان أن فيه روايتين ، والصحيح أنه لا يأخذ . وأورد على المصنف أنه نفى الخلاف في التكفيل في اللقطة .

وقال في فصل القضاء بالمواريث فيه : أي في أخذ الكفيل عند رفع اللقطة روايتان ، والأصح أنه على الخلاف . على قول أبي حنيفة لا يأخذ وعلى قولهما يأخذ ، هذا إذا دفعه بمجرد العلامة ، فإن صدقه مع العلامة أو لا معها فلا شك في جواز دفعه إليه ، لكن هل يجبر ؟ قيل يجبر كما لو أقام بينة ، وقيل لا يجبر كالوكيل يقبض الوديعة إذا صدقه المودع لا يجبره القاضي على دفعها إليه ، ودفع بالفرق ( بأن المالك هنا غير ظاهر ) أي المالك الآخذ لهذه اللقطة التي صدق الملتقط مدعيها غير ظاهر ، والمودع في مسألة الوديعة مالك ظاهر ، وإنما أقر للحاضر بحق قبضها وإقراره بحق قبض ملك الغير لا يلزمه إقباضه لأنه إقرار على ملك غيره ، وإذا دفع بالتصديق أو بالعلامة وجاء آخر أقام البينة أنها له إن كانت قائمة في يد المدعي قضى له بها وهو ظاهر ، وإن كان هالكا خير بين أن يضمن القابض أو الملتقط ، فإن ضمن القابض لا يرجع على أحد ، وإن ضمن الملتقط ففي رواية لا يرجع على القابض وهو قول الإمام أحمد فيما إذا كان الدفع بتصديقه ، وفي رواية يرجع وهو الصحيح .

[ ص: 131 ] وجه قول أحمد أن الملتقط اعترف بأنه مالكها وصاحب البينة ظلمه بتضمينه فلا يظلمه هو وصار كالمودع إذا صدق الوكيل بالقبض ودفع إليه ثم حضر المودع وأنكر الوكالة وضمنه لا يرجع على الوكيل لزعمه أن الوكيل قبضه بأمره والمودع ظالم في تضمينه .

ولنا أنه وإن صدقه في الملك لكنه لما قضى بالملك للمدعي بالبينة فقد صار مكذبا شرعا بتكذيب القاضي فبطل إقراره وصار كأنه دفع بلا تصديق ، ثم ظهر الأمر بخلافه وصار كإقرار المشتري بالملك للبائع إذا استحقه غيره ببينة فقضى له به يرجع على البائع ، ومثل هذا يجري في إقراره بأنه وكيل المودع . والذي فرق به في المبسوط أن في زعم المودع أن الوكيل عامل لغيره وهو المودع في قبضه له بأمره وليس بضامن ، بل المودع ظلمه في تضمينه إياه ، ومن ظلم لا يظلم غيره موهنا في زعمه أن القابض عامل لنفسه وأنه ضامن إذا ثبت الملك لغيره بالبينة فكان له أن يرجع عليه بما ضمن انتهى ( قوله ولا يتصدق باللقطة على غني لأن المأمور به هو الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم { فإن لم يأت : يعني صاحبها ، فليتصدق به } والصدقة لا تكون على غني فأشبه الصدقة المفروضة ) والحديث الذي ذكره هو ما رواه البزار في مسنده والدارقطني عن يوسف بن خالد السمتي : حدثنا زياد بن سعد عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال : لا تحل اللقطة ، فمن التقط شيئا فليعرفه سنة ، فإن جاء صاحبه فليؤده إليه ، وإن لم يأت فليتصدق به ، فإن جاء فليخيره بين الأجر وبين الذي له } وفيه يوسف بن خالد السمتي .

وليس للملتقط إذا كان غنيا أن يتملكها بطريق القرض إلا بإذن الإمام ، وإن كان فقيرا فله أن يصرفها إلى نفسه صدقة لا فرضا فيكون فيه للمالك أجر الصدقة تحقيقا للنظر من الجانبين جانب المالك بحصول الثواب له وجانب الملتقط كما لو كان الفقير غير الملتقط ، ولهذا جاز دفعها إلى فقير غير الملتقط وإن كان أبا الملتقط أو ابنه أو زوجته ( وإن كان الملتقط غنيا لما ذكرنا ) من تحقيق النظر من الجانبين . وقال الشافعي : له أن يتملكها وإن كان غنيا بطريق القرض غير مفتقر إلى إذن الإمام ( لقوله صلى الله عليه وسلم { فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فاستمتع بها } ) قالوا ( وأبي كان من المياسير ) بدليل ما في بعض رواياته أنه صلى الله عليه وسلم قال { وإلا فهي كسبيل مالك } .

فقد جعل له مالا ، قلنا : هذه الرواية ليس فيها أن الخطاب لأبي ، فإنها كما في مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه [ ص: 132 ] { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في اللقطة عرفها سنة ، فإن جاء أحد ، إلى أن قال : فهي كسبيل مالك } وظاهر هذا أنه يحكي قوله لسائل يسأله ، وجاز كون ذلك كان فقيرا . ثم هنا ما يدل على فقر أبي في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وهو ما في الصحيحين { عن أبي طلحة قلت : يا رسول الله إن الله تعالى يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، فما ترى يا رسول الله ؟ فقال : اجعلها في فقراء قرابتك ، فجعلها } أبو طلحة في أبي وحسان وهذا صريح في أن أبيا كان فقيرا ، لكنه يحتمل أنه أيسر بعد ذلك ، إلا أن قضايا الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال .

وأما ما في حديث زيد بن خالد { جاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال : اعرف ، إلى أن قال وإلا فشأنك بها } وفي رواية " فهي لك " فهو أيضا من قضايا الأحوال المتطرق إليها الاحتمال ، إذ يجوز كون السائل فقيرا ، لو سلم أن الخطاب لأبي لا يخرج عن قضايا الأحوال ذات الاحتمال ، إذ المال لا يلزم كونه نصابا ، وكونه خاليا عن الدين لو كان نصابا فجاز كونه أقل من نصاب ، وكونه مديونا . قالوا : لو كانت اللقطة لا تحل للملتقط إلا بطريق الصدقة فيمتنع إذا كان غنيا لما أكلها علي رضي الله عنه وهو لا تحل له الصدقة .

وقد أمره صلى الله عليه وسلم بأكلها فيما أخرج أبو داود عن سهل بن سعد { أن علي بن أبي طالب دخل على فاطمة وحسن وحسين يبكيان فقال : ما يبكيكما ؟ قالت : الجوع ، فخرج علي رضي الله عنه فوجد دينارا بالسوق ، فجاء فاطمة فأخبرها فقالت : اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا دقيقا ، فجاء اليهودي ، فقال اليهودي : أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول الله ؟ قال : نعم ، قال : فخذ دينارك والدقيق لك ، فخرج علي فأخبر فاطمة فقالت : اذهب إلى فلان الجزار وخذ لنا بدرهم لحما ، فذهب فرهن الدينار بدرهم بلحم ، فعجنت وخبزت وأرسلت إلى أبيها فجاء ، فقالت : يا رسول الله أذكر لك فإن رأيته حلالا لنا أكلناه ، من شأنه كذا وكذا ، فقال : كلوا باسم الله ، فأكلوا فبينما هم مكانهم إذا غلام ينشد الله والإسلام الدينار ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فدعي فسأله فقال : سقط مني في السوق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا علي اذهب إلى الجزار فقل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك : أرسل إلي بالدينار ودرهمك علي ، فأرسل به فدفعه صلى الله عليه وسلم إلى الغلام } .

قلنا : هذا الحديث تكلم فيه باعتبار تضمنه إنفاقه قبل التعريف فدل على ضعفه . وقول المنذري : ولعل تأويله أن التعريف ليس له صيغة يعتد بها فمراجعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ملإ من الخلق إعلان به ، وهذا يؤيد الاكتفاء في التعريف بمرة غير ظاهر فإنه لم يذكر له ذلك إلا بعد أن اشتروا وخبزوا وأحضروه صلى الله عليه وسلم على الأكل . نعم يجب الحكم بأن عليا عرفه قبل [ ص: 133 ] أن يأتي به فاطمة وإن لم يذكر . وقد رواه عبد الرزاق وإسحاق بن راهويه والبزار وأبو يعلى الموصلي ، وفيه { أنه أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : عرفه ثلاثة أيام ، فعرفه فلم يجد من يعرفه ، فرجع فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : شأنك به } .

وفيه دليل لمختار شمس الأئمة من أن التقدير بحول وغيره ليس بلازم ، بل إلى أن تسكن نفسه إلى أن طالبه قطع نظره عنه . وفي سنده أبو بكر بن عبد الله ، قال البزار على الظن : هو عندي أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة وهو لين الحديث ، وقال عبد الحق : هو متروك . والحق أن الحديث ضعيف من جهة الرواية ومن جهة الاضطراب ، لأن ما في الرواية الأولى من أنهم إنما أعلموه بعد أن اشتروا وصار مهيئا للأكل يناقض ما في الثانية من أنه أعلمه فأمره بتعريفه ثم أمره بأخذه .

وفي الأولى أنه دفع عينه للمنشد . وفي الثانية " أنه جعله دينا عليه وقال : إذا جاءنا أديناه إليك " وغير ذلك ، والاضطراب موجب للضعف .

ثم لو سلمنا حجيته كان الثابت به أن استقراضه بإذن الإمام جائز ، وليس هذا محل النزاع كما تقدم ، فلم يثبت بعد جواز افتراض الملتقط الغني ، فلو سلمنا ضعف حديث أبي هريرة في الصدقة بناء على تضعيف السمتي كفانا جواز التصدق بالإجماع ، ثم هو يثبت أن للملتقط الغني فيها حكما آخر ، ونحن نطالبه في إثباته بالدليل ولم يتم له عليه دليل فيبقى على الانتفاء .




الخدمات العلمية