الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والاقتراض نزول إلى الدرجة الأخيرة من درجات العوام ، وهي درجة القسم الثالث الذين يقتصرون على أداء الواجب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون عنه وهي أقل الرتب وقد اقتصر جميع العوام عليه لبخلهم بالمال وميلهم إليه وضعف حبهم للآخرة قال الله تعالى إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا يحفكم أي يستقص : عليكم فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة وبين عبد لا يستقصي عليه لبخله فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عباده ببذل الأموال .

المعنى الثاني : التطهير من صفة البخل فإنه من المهلكات قال صلى الله عليه وسلم : ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه وقال تعالى : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وسيأتي في ربع المهلكات وجه كونه مهلكا وكيفية التقصي منه وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير ذلك اعتيادا فالزكاة بهذا المعنى طهرة أي : تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك وإنما طهارته بقدر بذله ، وبقدر فرحه بإخراجه ، واستبشاره بصرفه إلى الله تعالى .

المعنى الثالث : شكر النعمة فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن والمالية شكر لنعمة المال وما أخس من ينظر إلى الفقير وقد ضيق عليه الرزق وأحوج إليه ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج ، غيره إليه بربع العشر أو العشر من ماله .

التالي السابق


ثم قال المصنف: (والإقراض نزول إلى الدرجة الأخيرة من درجات العوام، وهي درجة القسم الثالث الذين يقتصرون على أداء الواجب) في إخراج المال، (ولا يزيدون عليه ولا ينقصون عنه) ويقفون على هذا الحد (وهي أقل الرتب) عند العارفين بالله؛ إذ جعل صاحب هذا المقام ما عدا المخرج ملك استحقاق خصه لنفسه، ولم يلاحظ ملك الأمانة، (وقد اقتصر جميع العوام) أي: عامة الناس (عليها) أي: على هذه الرتبة، وفي نسخة: عليه، وليس المراد بالعوام السوقة وأهل المكاسب، بل يدخل فيهم كل من يعرف في طريق القوم مشربا من مشاربهم، ولا خبرة عنده بالوجوه والاعتبارات والنسب في أسرار [ ص: 107 ] معاملة الله مع عباده (لبخلهم بالمال) وإمساكهم له (وميلهم إليه وضعف حبهم للآخرة) ومنشأ هذا كله الجهل بمقامي الربوبية والعبودية، فصاحب القسم الثاني عارف من حيث سره الرباني مستخلف فيما بيده من المال، فهو كالوصي على مال المحجور عليه يخرج عنه الزكاة، وصاحب القسم الثالث وإن كان مثله في كونه جامعا فإنه لا يعلم ذلك، فأضيف المال إليه فقيل له: أموالكم، فيخرج منها الزكاة، فالعارف يخرجها بحكم الوصايا، والثاني يخرجها بحكم الملك، فما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون، وكلا الفريقين صادق وصاحب دليل فيما نسب إليه، فلولا المحبة ما فرضت الزكاة ليثابوا ثواب من رزق في محبوبه، ولولا المناسبة بين المحب والحبيب لما كانت محبة ولا تصور وجودها، ولما كان حب المال منوطا بالقلوب صاغ لهم السامري العجل من حليهم؛ لأن قلوبهم تابعة لأموالهم، فسارعوا إلى عبادته حين دعاهم إلى ذلك، وفي غلبة ميلهم إلى حب المال (قال الله تعالى: إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ) معنى قوله: ( فيحفكم أي: يستقصي عليكم) يقال: أحفاه في المسألة بمعنى ألح، وألحف واستقصى (فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له) عوض ما بذله (الجنة بين عبد لا يستقصي) أي: لا يبالغ عليه (لبخله) شتان بينهما (فهذا أحد معاني أمر الله تعالى عباده بفضل الأموال، المعنى الثاني: التطهير من صفة البخل) أي: تطهير النفس منها، فإنها قد جبلت على الشح والبخل، وسبب ذلك أنه خلق فقيرا محتاجا؛ لأنه ممكن بالأصالة، وكل ممكن مفتقر إلى مرجح، فالفقر له لازم، والإنسان ما دامت حياته مرتبطة بجسده فإن حاجته بين عينيه وفقره مشهود له، وبه يأتيه اللعين في وعده، فقال: الشيطان يعدكم الفقر فلا يغلب نفسه ولا الشيطان إلا الشديد بالتوفيق الإلهي فإنه يقاتل نفسه والشيطان المساعد لها عليه، فلو لم يأمل البقاء وتيقن بالفراق لهان عليه إعطاء المال؛ لأنه مأخوذ عنه بالقهر والغلبة، شاء أو أبى، وبهذا الاعتبار، قال المصنف: (فإنه من المهلكات) ثم استدل عليه بالحديث، فقال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) . رواه أبو الشيخ في كتاب التوبيخ والبزار وأبو نعيم والبيهقي والطبراني في الأوسط من حديث أنس، وعنده ضعيف، وقد تقدم هذا الحديث للمصنف في كتاب العلم وتكلمنا عليه هناك، قال الراغب: خص المطاع لينبه أن الشح في النفس ليس بما يستحق به ذم؛ إذ ليس هو من فعله، وإنما يذم بالانقياد له، وهو يشير إلى ما ذكرنا قريبا أنه من لوازم الفقر، والفقر مما جبل عليه الإنسان بل هو حقيقته، وقال القرطبي: إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله؛ فإن احتقر مع ذلك غيره فهو الكبر (وقال الله تعالى: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) وقال تعالى: وأحضرت الأنفس الشح وفي الخبر: لا يجتمع شح وإيمان في قلب عبد أبدا. اعلم أن الشح يقابل السخاء، والبخل يقابل الجود. هذا هو الأصل، وإن كان قد يستعمل كل واحد منهما في الآخر، ويدل على صحة هذا الفرق أنهم جعلوا الفاعل من السخاء والشح على بقاء الأفعال الغريزية، فقالوا: شحيح وسخي، وقالوا: جواد وبخيل، وأما قولهم: بخيل، فمصروف عن لفظة الفاعل للمبالغة؛ كقولهم: راحم ورحيم، وقد عظم الله الشح وخوف منه، والبخل على ثلاثة أضرب: بخل الإنسان بماله، وبخله بمال غيره على غيره، وبخله على نفسه بمال غيره. وهو أقبح الثلاثة، والمال عارية في يد الإنسان مستردة، ولا أحد أجهل ممن لا ينقذ نفسه من العذاب الدائم بمال غيره، قاله الراغب في الذريعة: فالنفس مجبولة على حب المال وجمعه، والكرم فيها تخلق لا خلق، والشح من لوازم حب المال، وتطهيرها منه بذله لما يحبه (وسيأتي في ربع المهلكات وجه كونه مهلكا وكيفية التوقي منه) إن شاء الله تعالى (وإنما تزول صفة البخل) والشح (بأن يتعود بذل المال) أي: يجعل صرفه في مواضعه عادة تخلقا (فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير ذلك اعتيادا) أي: عادة له، (والزكاة بهذا المعنى طهرة أي: تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك) كما تطهر ماله، فلا يطلق عليه اسم البخل، وإنما اشتدت على الغافلين لكونهم قد تحققوا أن أموالهم لهم ملك، وأنه لا حق لغيرهم [ ص: 108 ] فيما ملكت أيمانهم من الأموال لا من دين ولا من بيع ولا غير ذلك، فلما جعل الله لقوم في أموالهم حقا يؤدونه، وماله سبب ظاهر تركن النفس إليه إلا ما ذكره الله من ادخار ذلك له ثوابا إلى الآخرة، شق على النفوس المشاركة في الأموال، ولما علم الله هذا منهم أخرج الأموال من أيديهم، فقال: وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه أي: هذا المال مالكم إلا ما تنفقون منه لله تعالى، وما تبخلون به فإنكم تبخلون بما لا تملكون فإنكم فيه خلفاء لورثتكم، إذا متم خلفتموه وراءكم لأصحابه، فنبههم بأنهم مستخلفون فيه؛ ليسهل عليهم بذلك، رحمة بهم، يقول الله لهم: كما أمرناكم أن تنفقوا مما أنتم مستخلفون فيه من الأموال، أمرنا رسولنا ونوابنا فيكم أن يأخذوا من هذه الأموال التي أنتم مستخلفون فيها مقدارا معلوما سميناه زكاة يعود خيرها عليكم، فما تصرف نوابنا فيما هو لكم ملك، وإنما تصرفون فيما أنتم مستخلفون فيه، كما أبحنا لكم أيضا فيه التصرف؛ فلما يعز عليكم، فالمؤمن لا مال له وله المال كله عاجلا وآجلا، فقد أعلمتك بهذا أن بذل المال شديد على النفس (وإنما طهارته بقدر بذله، وبقدر فرحه وإخراجه، واستبشاره بصرفه إلى الله تعالى) فإن بذله حصلت له الطهارة وتضاعف الأجر، وإن فرح به واستبشر بمثل هذا فوق تضاعف الأجر بما لا يقاس ولا يحدو، كما ورد في الماهر بالقرآن أنه ملحق بالملائكة السفرة الكرام، والذي يتعتم عليه القرآن يضاعف له الأجر للمشقة التي ينالها في تحصيله ودرسه، فله أجر المشقة، والزكاة من كونها بمعنى التطهير والتقديس، فلما أزال الله عن معطيها من إطلاق اسم البخيل والشحيح عليه، فلا حكم للبخل والشح فيه، وبما فيها من النمق والبركة سميت زكاة؛ لأن الله تعالى يربيها كما قال: ويربي الصدقات فلهذا اختصت بهذا الاسم لوجود معناه، فمن ذلك البركة في المال وطهارة النفس والصلابة في دين الله، ومن أوتي هذه الصفات فقد أوتي خيرا كثيرا. (المعنى الثالث: شكر النعمة) الإلهية في بذل ما في يده، (فإن الله) عز وجل (على عبده نعمة في نفسه) ؛ حيث أوجدها من العدم، وشرفها بالتوحيد، ووفقه لتطهيرها من الصفات الذميمة، (وفي ماله) حيث ملكه إياه، وجعله يتصرف فيه كيف يشاء (فالعبادات البدنية) المحضة كالصلاة والصوم (شكر لنعمة البدن) ، والعبادات (المالية) المحضة كالزكاة والصدقة (شكر لنعمة المال) ، والمركبة منها شكر للنعمتين، (ومن أخس) أفعل من الخسة (من ينظر) بعينه (إلى) حال (الفقير) المعدم أو يسمع به (قد ضيق عليه الرزق) وصار مقترا فيه (وأحوج إليه) أي: صار محتاجا إلى أخذ المال ليدفع به عن نفسه الحاجة، أو المعنى ألجئ إلى الفقر (ثم لا تسمح نفسه) المجبولة على الشح (بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال، وأحوج غيره إليه بربع العشر) الذي أوجب الله عليه ذلك القدر (أو العشر من ماله) ، فالله يحب التعاون على فعل الخير وندب إليه، والمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.



الخدمات العلمية