الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلنبدأ بالباب الأول وفيه فصلان .

الفصل الأول في فضائل الحج وفضيلة البيت ومكة والمدينة حرسهما الله تعالى وشد الرحال إلى المساجد .

فضيلة الحج .

التالي السابق


(فلنبدأ) أولا (بالباب الأول) من الأبواب لما فيه من فضائل هذه العبادة ثم فضائل مكة على العموم ثم [ ص: 268 ] فضائل البيت الشريف على الخصوص ثم ما يتعلق بصحة هذه العبادة من الأركان والشروط (وفيه فصلان) :

(الفصل الأول في فضائل الحج) .

قدمه للاهتمام به (وفضيلة البيت) الشريف زاده الله شرفا (وفضل مكة والمدينة حرسهما الله تعالى) وسائر بلاد الإسلام (و) بيان ما ورد (في شد الرحال إلى المساجد) الثلاثة وفي نسخة إلى المشاهد العظام .

(فضيلة الحج) .

ولنقدم قبل الخوض فيه مهمات :

الأولى : اختلف العلماء في السنة التي فرض فيها الحج والمشهور أنها سنة ست وبه جزم الرافعي في كتاب السير وصححه ابن الرفعة وقيل : سنة خمس حكاه الواقدي محتجا بقصة ضمام بن ثعلبة وقيل : سنة تسع حكاه النووي في الروضة وحكاه الماوردي في الأحكام السلطانية وصححه القاضي عياض وقيل : فرض قبل الهجرة حكاه الإمام في النهاية وهو بعيد وأبعد منه قول بعضهم : أنه فرض سنة عشر أخرج البخاري من حديث زيد بن أرقم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج بعدما هاجر حجة واحدة قال ابن إسحاق وبمكة أخرى وأخرج الدارقطني من حديث جابر قال حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر وحجة قرن بها عمرة وكانت حجته بعدما هاجر سنة عشر وحج أبو بكر الصديق في السنة التي قبلها سنة تسع وأما سنة ثمان وهي عام الفتح فحج بالناس عتاب بن أسيد .

الثانية : المشهور عند العلماء أن العبادات ثلاثة أنواع : بدنية محضة وهي الصلاة والصوم ، ومالية محضة وهي الزكاة ، ومركبة منهما وهي الحج ، وقدم بعض العلماء الصوم على الزكاة نظرا إلى أن كلا منهما عبادة بدنية وأخره أكثرهم عنها اقتداء بالكتاب والسنة واتفق الكل على تأخير الحج عن الثلاث والأفضلية فيهن على الترتيب الذي ذكره أكثر العلماء فالصلاة أفضل الأعمال بعد الإيمان ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج وقال عمر بن نجيح من أصحابنا المتأخرين وفي جعل الحج مركبا من العبادات المالية والبدنية نظر بل هو عبادة بدنية محضة والمال إنما هو شرط في وجوبه لا إنه جزء مفهومه وهو كلام نفيس إلا أنه مخالف لما عليه أكثر العلماء .



الثالثة : الحج لغة : القصد ، هكذا أطلقه أئمة اللغة وقيده بعضهم بكونه إلى معظم واستدل بقول الشاعر :


يحجون سب الزبرقان المزعفرا

وقال في النهاية : الحج القصد إلى كل شيء ، وخصه الشرع بقصد البيت على وجه مخصوص وفيه لغتان : الفتح والكسر وقيل : الفتح المصدر والكسر الاسم ، وقال النووي في شرح مسلم : الحج بالفتح هو المصدر وبالفتح والكسر جميعا هو الاسم منه وأصله القصد وقال الحافظ ابن حجر : الحج في اللغة : القصد وفي الشرع : القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة وهو بالفتح والكسر لغتان نقل الطبري أن الكسر لغة أهل نجد والفتح لغيرهم وقيل : هو بالفتح الاسم وبالكسر المصدر وقيل : بالعكس . أهـ .

وفي سياق عبارات أصحابنا هو شرعا : زيارة مكان مخصوص وهو البيت الشريف في زمان مخصوص وهو أشهر الحج بفعل مخصوص وهو الطواف والسعي والوقوف محرما ففيه المعنى اللغوي مع زيادة وصف .



الرابعة : قال الرافعي في شرح الوجيز لا يجب الحج بأصل الشرع في العمر إلا مرة واحدة لما روى ابن عباس قال : "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ قال : لا لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوها الحج مرة فمن زاد فمتطوع " ، وقد يجب أكثر من مرة واحدة لعارض كالنذر والقضاء وليس من العوارض الموجبة الردة والإسلام بعدهافمن حج وارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يلزمه الحج خلافا لأبي حنيفة ومأخذ الخلاف أن الردة عنده محبطة بشرط أن يموت عليها قال تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر . . . الآية ويساعد أحمد أبا حنيفة في الآية ولكن لا من جهة هذا المأخذ . أهـ .

وكذلك قال أصحابنا أنه فرض في العمر مرة استدلالا بحديث الأقرع وبحديث أبي هريرة فيما أخرجه الترمذي والحاكم والبزار والطحاوي : "لما نزل قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت قال -صلى الله عليه وسلم- حجوا فقالوا : أفي كل عام أم مرة واحدة ؟ فقال : لا بل مرة واحدة " ، ولأن سبب وجوبه البيت لأنه يضاف إليه ويقال : [ ص: 269 ] حج البيت والإضافة دليل السببية وأنه لا يقصد فلا يتكرر الوجوب .

الخامسة : قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت الآية فيه أنواع من التأكيد :

منها : قوله : ولله على الناس يعني حق واجب لله على رقاب الناس لأن على للإلزام .

ومنها : أنه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع وفيه ضربا تأكيد أحدهما : أن الإبدال تنبيه للمراد وتكرير له ، والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين .

ومنها : قوله : ومن كفر مكان من لم يحج تغليظا على تارك الحج .

ومنها : ذكر الاستغناء وذا دليل السخط والخذلان .

ومنها : قوله : عن العالمين ولم يقل عنه لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدل على عظم السخط .



السادسة : اختلف فيه عند أصحابنا هل هو واجب على الفور أو على التراخي ؟ والفور في اللغة : الغليان استعير للسرعة ثم أطلق على الحال التي للتراخي فيها مجازا مرسلا وبالأول قال أبو يوسف أي : في أول أوقات الإمكان فمن أخره عن العام الأول أثم وهو أصح الروايتين عن أبي حنيفة كما في المحيط والخانية وشرح المجمع وفي القنية أنه المختار قال القدوري وهو قول مشايخنا وبالثاني قال أحمد لكن جوازه مشروط بأن لا يفوته حتى لو مات ولم يحج أثم عنده أيضا ووقت الحج عند الأصوليين يسمى مشكلا لوجهين :

الوجه الأول : أنه يشبه المعيار لأنه لا يصح في عام واحد إلا حج واحد ويشبه الظرف لأن أفعاله لا تستغرق أوقاته .

والوجه الثاني : أن أبا يوسف لما قال بتعيين أشهر الحج من العام الأول جعله كالمعيار ومحمد لما قال بعدمه جعله كالظرف ولم يجزم كل منهما بما قال فإن أبا يوسف لو جزم بكونه معيارا لقال من أخره عن العام الأول يكون قضاء لا أداء مع أنه لا يقول به بل يقول أنه يكون أداء ولقال إن التطوع في العام الأول لا يجوز مع أنه لا يقول به بل يقول : إنه يجوز وإن محمدا لو جزم بكونه ظرفا لقال : إن من أخره عن العام الأول لا يأثم أصلا أي : لا في مدة حياته ولا في آخر عمره مع أنه لا يقول به بل يقول إن من مات ولم يحج أثم في آخر عمره فحصل الإشكال ثم إن القائل بالفور لا يجزم بالمعيارية والقائل بالتراخي لم يجزم بالظرفية بل كل منهما يجوز الجهتين لكن القائل بالفور يرجح جهة المعيارية ويوجب أداءه في العام الأول حتى لو أخره عنه بلا عذر أثم لتركه الواجب لكن لو أداه في العام الثاني كان أداء لا قضاء والقائل بالتراخي يرجح جهة الظرفية حتى لو أداه بعد العام الأول لا يأثم بالتأخير لكن لو أخره فمات ولم يحج أثم في آخر عمره وقال بعض أصحابنا المتأخرين والمعتمد أن الخلاف في هذه المسألة ابتدائي فأبو يوسف عمل بالاحتياط لأن الموت في سنته غير نادر فيأثم ومحمد حكم بالتوسع لظاهر الحال في بقاء الإنسان ، والله أعلم .

وممن قال إن الحج على التراخي الشافعي والثوري والأوزاعي وممن قال على الفور مالك وأحمد وكان الكرخي يقول هو مذهب أبي حنيفة وإذ قد فرغنا عن ذكر المهمات .




الخدمات العلمية