الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الطواف بالبيت فاعلم أنه صلاة فأحضر في قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبة ما فصلناه في كتاب الصلاة واعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله ولا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت ، بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت حتى لا تبتدئ الذكر إلا منه ولا تختم إلا به ، كما تبتدئ الطواف من البيت وتختم ، بالبيت .

واعلم أن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية وأن . البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر ، وهي عالم الملكوت ، كما أن البدن مثال ظاهر في عالم الشهادة للقلب الذي لا يشاهد بالبصر ، وهو في عالم الغيب .

وأن ، عالم الملك والشهادة مدرجة إلى عالم الغيب والملكوت لمن فتح الله له الباب وإلى هذه الموازنة وقعت الإشارة بأن البيت المعمور في السموات بإزاء الكعبة فإن ، طواف الملائكة به كطواف الإنس بهذا البيت ولما قصرت رتبة أكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف أمروا بالتشبه بهم بحسب الإمكان ، ووعدوا بأن من تشبه بقوم فهو منهم والذي يقدر على مثل ذلك الطواف هو الذي يقال : إن الكعبة تزوره ، وتطوف به على ما رآه بعض المكاشفين لبعض أولياء الله سبحانه وتعالى .

وأما الاستلام فاعتقد عنده أنك مبايع لله عز وجل على طاعته فصمم عزيمتك على الوفاء ببيعتك ، فمن غدر في المبايعة استحق المقت وقد روى ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : الحجر الأسود يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها خلقه ، كما يصافح الرجل أخاه .

التالي السابق


(وأما الطواف بالبيت فاعلم أنه صلاة) ، أخرج أحمد والنسائي عن طاووس، عن رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله أحل فيه المنطق، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير، وأخرج النسائي عن ابن عمر أنه قال: أقلوا الكلام في الطواف فإنما أنتم في الصلاة، وأخرج الشافعي، عن عمر، وقال في صلاة، وقد تقدم ذلك في ذكر الطواف، (فأحضر في قلبك فيه من التعظيم) والهيبة (والخوف والرجاء والمحبة وما فصلناه في كتاب) أسرار (الصلاة) بدليل أن حكمه حكم الصلاة إلا ما وردت فيه الرخصة من الكلام وغيره، ومقتضى ما ذكر إبطاله بما يبطل الصلاة حيث جعل حكمه حكمها، (واعلم أنك بالطواف) بالبيت (متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله) ; لأن الله سبحانه نسب العرش إلى نفسه، كما نسب البيت إلى نفسه، وجعل العرش محل الاستواء للرحمن، وقال: الرحمن على العرش استوى ، وجعل الملائكة حافين به بمنزلة الحراس الذين يدورون بدار الملك، والملازمين بابه لتنفيذ أوامره، وجعل الله الكعبة بيته، ونصب الطائفين به على ذلك الأسلوب، وبذلك تم التشبه، ولكن البيت تميز عن العرش بأمر ما هو في العرش، وهو يمين الله في الأرض كما يأتي الكلام عليه قريبا .

وقال الشيخ الأكبر: نسب الله إليه البيت سبحانه، وأخبر أنه أول بيت وضعه الله تعالى معبدا، وجعله نظيرا ومثلا لعرشه، وجعل الطائفين به كالملائكة الحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم، (ولا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت، بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت حتى لا يبتدأ الذكر إلا منه ولا يختم إلا به، كما يبتدأ بالطواف من البيت، ويختم بالبيت) ، وهذا هو الذي وقعت الإشارة إليه في قوله: يسبحون بحمد ربهم أي: بالثناء على ربهم ثناؤنا على الله في طوافنا أعظم من ثناء الملائكة عليه سبحانه بما [ ص: 450 ] ا يتقارب; لأنهم في هذا الثناء نواب عن الحق يثنون عليه بكلامه الذي أنزله عليهم، وهم أهل الله، وأهل القرآن، فهم نائبون عنه في الثناء عليه فلم يشبه ذكرهم، استنباطا نفسيا ولا اختيارا كونيا، (واعلم أن الطواف الشريف هو تطواف القلب لحضرة الربوبية .

وإن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر، وهي في عالم الملكوت، كما أن البدن مثال ظاهر في عالم الشهادة للقلب الذي لا يشاهد بالبصر، وهو في عالم الغيب، وإن عالم الملك والشهادة مدرجة إلى عالم الغيب والملكوت لمن فتح له الباب) ، اعلم أن من وجوه تشبيه الكعبة بالقلب بالوجه الذي ذكره، وأنه لما جعل الله تعالى قلب عبده بيتا كريما وحرما جسيما، وذكر أنه وسعه حين لم يسعه سماء ولا أرض، جعل الخواطر التي تمر عليه كالطائفين، ولما كان في الطائفين من يعرف حرمة البيت فيعامله بالطواف بما يستحقه من التعظيم والإجلال، ومن الطائفين من لا يعرف ذلك فيطوفون به بقلوب غافلة لاهية، والسنة بغير ذكر الله ناطقة، بل ربما نطقوا بفضول من القول وزور كذلك الخواطر التي تمر على قلب المؤمن منها مذموم ومنها محمود، وكما كتب الله طواف كل طائف للطائف به على أي حالة كان، وعفا عنه فيما كان منه كذلك الخواطر المذمومة، عفا الله عنها ما لم يظهر حكمها على ظاهر الجسم للمس .

وكما أن في البيت يمين الله للمبالغة الإلهية ففي قلب العبد الحق سبحانه من غير تشبيه ولا تكييف كما يليق بجلاله سبحانه حيث وسعه، ثم إن الله تعالى جعل لبيته أربعة أركان بسر إلهي، وهي في الحقيقة ثلاثة أركان الركن الواحد الذي يلي الحجر كالحجر في الصورة مكعب الشكل، ولأجل ذلك سمي كعبة تشبيها بالمكعب، فإذا اعتبرت الثلاثة الأركان جعلها في القلب محل الخاطر الإلهي، والآخر ركن الخاطر الملكي والآخر ركن الخاطر النفسي، فالإلهي ركن الحجر، والملكي الركن اليماني والنفسي المكعب الذي في الحجر الأسود، وليس للخاطر الشيطاني فيه محل، وعلى هذا الشكل قلوب الأنبياء مثلثة الشكل على شكل الكعبة، ولما أراد الله سبحانه من إظهار الركن الرابع جعله للخاطر الشيطاني، وهو الركن العراقي والركن الشامي للخاطر النفسي .

وإنما جعلنا الخاطر الشيطاني للركن العراقي; لأن الشارع شرع أن يقال عنده أعوذ بالله من الشقاق والنفاق، وسوء الأخلاق، وبالذكر المشروع في كل ركن تعرف مراتب الأركان، وعلى هذا الشكل المربع قلوب المؤمنين ما عدا الرسل والأنبياء والمعصومين ليميز الله رسله وأنبياءه من سائر المؤمنين، فليس لنبي إلا ثلاثة خواطر: إلهي وملكي ونفسي ولغيرهم هذه، وزيادة الخاطر الشيطاني العراقي فمنهم من ظهر حكمه عليه في الظاهر، وهم عامة الخلق، ومنهم من يخطر له ولا يؤثر في ظاهره، وهم المحفوظون من أوليائه، ولما اعتبر الله الشكل الأول الذي للبيت جعل له الحجر على صورته، وسماه حجرا لما حجر عليه أن ينال تلك المرتبة أحد من غير الأنبياء والمرسلين حكمة منه سبحانه، فلنا الحفظ الإلهي ولهم العصمة .

واعلم أن الله تعالى قد أودع في الكعبة كنزا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجه فينفقه، ثم بدا له في ذلك لمصلحة رآها، ثم أراد عمر - رضي الله عنه - بعده أن يخرجه فامتنع اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو فيه إلى الآن كذلك جعل الله في قلب العارف كنز المعرفة بالله فشهد لله بما شهد الحق به لنفسه من وحدانيته في ألوهيته فجعلها كنزا في قلوب العلماء بالله مدخرا أبدا، كلما ظهر في الأحيان من الخير فهو من أحكامها وحقها، ثم إن الله جعل هذا البيت الذي هو محل ذكر اسم الله على أربعة أركان، كقيام العرش اليوم على أربع حملة، كذا ورد في الخبر أنهم اليوم أربعة، وغدا يكونون ثمانية فإن الآخرة فيها حكم الدنيا والآخرة، فلذلك تكون غدا ثمانية فيظهر في الآخرة حكم سلطان الأربعة الآخرة .

وكذلك يكون القلب في الآخرة تحمله ثمانية الأربعة التي ذكرناها، والأربعة الغيبية وهي العلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، ليس غير ذلك .

فإن قلت: فهي موجودة اليوم فلماذا جعلتها في الآخرة .

قلنا: وكذلك الثمانية من الحملة موجودين اليوم في أعيانهم، لكن لا حكم لهم في الحمل الخاص إلا كذلك، هذه الصفات التي ذكرناها، إنما حكم لهم في الآخرة فلا يعجز السعيد عن [ ص: 451 ] تكوين شيء، وإرادته نافذة فما يهم بشيء يحضر إلا حضر، وكلامه نافذ فما يقول لشيء: كن إلا ويكون، فالعلم له عين في الآخرة، وليس هذا حكم هذه الصفات في النشأة الدنيا مطلقة، فاعلم ذلك فالإنسان في الآخرة نافذ الاقتدار فالله بيته قلب عبده المؤمن، والبيت بيت اسمه تعالى، والعرش مستوى الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ، (وإلى هذه الموازنة وقعت الإشارة بأن البيت المعمور في السماء بإزاء الكعبة، وإن طواف الملائكة به كطواف الإنس) والجن (بهذا البيت) .

أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والحاكم، وصححه البيهقي في الشعب عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة.

وأخرج الطبراني، وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه: البيت المعمور في السماء يقال له: الضراح على مثل البيت بحياله لو سقط عليه يدخله سبعون ألف ملك لم يروه قط، وإن له في السماء حرمة على قدر حرمة مكة.

وأخرجه عبد الرزاق في المصنف عن كريب مولى ابن عباس مرسلا .

وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن جرير، وابن الأنباري في المصاف عن ابن الطفيل أن ابن الكوا سأل عليا - رضي الله عنه -، عن البيت المعمور ما هو قال: الضراح بيت فوق سبع سموات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.

وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: إن في السماء بيتا يقال له: الضراح وهو فوق البيت العتيق من حياله له حرمة في السماء، كحرمة هذا في الأرض يلجه كل ليلة سبعون ألف ملك يصلون فيه، لا يعودون إليه أبدا غير تلك الليلة، (ولما قصرت رتبة أكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف أمروا بالتشبه بهم بحسب الإمكان، ووعدوا بأن من تشبه بقوم فهو منهم) ، قال العراقي: رواه أبو داود من حديث ابن عمر بسند صحيح اهـ .

قلت: ورواه البزار عن ابن عبيدة بن حذيفة، عن أبيه، (والذي يقدر على مثل ذلك الطواف هو الذي يقال: إن الكعبة تزوره، وتطوف به على ما رآه بعض المكاشفين لبعض أولياء الله تعالى) ، وقد تقدم شيء من ذلك في أول الباب، (وأما الاستلام فاعتقد عنده أنك مبايع لله عز وجل على طاعته فصمم عزيمتك على الوفاء) ، وفي نسخة: فصمم عند ذلك قيامك بالوفاء (ببيعتك، فمن غدر في المبايعة استحق المقت) ، قال الشيخ الأكبر قدس سره: اعلم أن البيت تميز على العرش بأمر ما هو في العرش، وهو يمين الله في الأرض لتبايعه في كل شوط مبايعة رضوان، وبشرى وقبول لما كان معافى كل شوط من الذكر والحضور والحركة فإذا انتهينا إلى اليمين الذي هو الحجر استشعرنا من الله سبحانه بالقبول فبايعناه، وقبلنا يمينه المضافة إليه قبلة قبول وفرح واستبشار، وهكذا في كل شوط فإن كثر الازدحام إليه أشرنا إليه إعلاما بأنا نريد تقبيله، وإعلاما بعجزنا عن الوصول إليه، ولا تقف تنظر النوبة حتى تصل إلينا فتقبله; لأنه لو أراد لك مناما شرع لنا الإشارة إليه إذ لم نقدر عليه، فعلمنا أنه يريد منا اتصال المشي في السبعة الأشواط من غير أن يتخللها وقوف الأقدر للتقبيل في مرورنا أنا وجدنا السبيل إليه .

وقال في موضع آخر: الاستلام لا يكون إلا في الحجر خاصة لكون الحق جعله يمينا له، فلمسه بطريق البيعة، (وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الحجر الأسود يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها، كما يصافح الرجل أخاه ) ، قال العراقي: تقدم في العلم من حديث ابن عمرو اهـ .

قال الشيخ زين الدين الدمشقي الواعظ: لكن حديث ابن عباس هذا لم يتقدم، ولفظه عن ابن عباس قوله: إن هذا الركن يمين الله في الأرض يصافح بها عباده مصافحة الرجل أخاه، رواه ابن أبي عمر المعدني في مسنده .

وروى الطبراني عنه أنه قال: الركن يعني الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه بيده ما حاذى به عبد مسلم يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه، لكن في رواية الطبراني ابن يزيد وهو ضعيف .




الخدمات العلمية