الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الركن الرابع : الشيء المضمون ، وفي الجواهر : يشترط أن يكون مما يمكن استيفاؤه من الضامن أو ما يتضمن ذلك كالكفالة بالوجه لمن عليه مال ، ولا تذهب حمالة الكفالة ، وقاله الأئمة : وأن يكون ثابتا مستقرا أو مآله إلى ذلك ، فيمتنع بالكتابة لعدم الاستقرار ولا تؤول إليه ; لأن العجز يفسخها ولا تجعل الجعالة إلا بعد العمل لعدم استقرارها قبله ; لأن ما لا يستقر على الأصيل لا يستقر على الكفيل ; لأنه فرعه ، ووافقنا الأئمة على الكتابة ، وخالفنا ابن حنبل في الجعالة قياسا على الأجرة في الإجارة ، والغالب وقوع الشروع ، واللزوم بخلاف الكتابة ليست معارضة محضة ، لا سيما إن قلنا له تعجيز نفسه ، وفي التنبيهات : الحمالة ثمانية أقسام : مطلقة مبهمة نحو أنا حميل لك ، وبمال مطلق وبمال على أنه لا رجوع على المتحمل عنه ، وهو الحميل ، وبالنفس بشرط عدم لزوم المال ، وبالطلب ومرقبة بما يثبت على فلان ، وبما يوجبه الحكم عليه وبالجنايات كلها جائزة لازمة ، واختلف في المبهمة إذا عريت عن القرائن هل تحمل على المال أو النفس ، وأما بالمال المطلق فيرجع بالمال على الأصيل إلا مسألة واحدة وهي الصداق في عقد النكاح ، ففي المدونة : لا يرجع ، وعنه يرجع 0 [ ص: 207 ] كسائر الحقوق ، وأما على أن لا يرجع فهل يحتاج إلى حوز فيبطل بموت الحامل أولا قولان وأما بالنفس والوجه حمالة مطلقة ، فالمشهور سقوطها بإحضار الوجه ، والغرم إذا لم يحضره ، وقال ابن عبد الحكم : لا يلزمه من المال شيء في الوجهين وعن مالك هي كحمالة المال يلزمه المال في كل وجه ، والحمالة المقيدة بالوجه لا يلزم فيها مال إلا أن يقدر على إحضاره فلا يمكن منه ويرده فيهرب ، فإن أتاهم على تعيينه حبس حتى يحضره ، وبالطلب تصح ( كذا ) في كل شيء وفيما يتعلق بالأبدان وحقوق الآدميين والقصاص إذا رضي بذلك صاحب الحق وتركه ، كحامل يحضره له متى شاء ولا شيء على الحامل إن لم يحضره مما لزمه إلا أن يعلم أنه يقره وأمكنه فتركه حتى أعجزه فيسجن حتى يحضره ويعاقب ، وأما المترقبة فيلزمه ما ثبت بالبينة ، وهل يلزمه ما يقر به المطلوب بعد إنكاره خلاف ، وأما الجنايات والحدود والقصاص وعقوبات الأبدان فلا تصح على الجملة ، وجوزها بعض العلماء قياسا على حمالة الوجه المقيدة ، ولا شيء عليه إن لم يأت به ، إلا عثمان البتي ألزمه في النفس والجراح دية المقتول وأرش الجراح ، وعن أصبغ في المتعسف يأخذ الأموال والقتل يؤخذ فيتحمل به أقوام عنه بما اجترم على الناس من قتل ، وقال : إن ذلك يلزمهم كل ما كان يلزمه ، إلا أنهم لا يقتلون فعليه ، يريد تلزمهم الدية في القتل ، قال اللخمي : إذا كانت تعرض في القذف أو جرح أو قتل لم يجز بما يجب على المطلوب ، ولأن يتكفل بوجهه على أنه متى عجز عن إحضاره أخذ ذلك منه ، ويجوز تطلبه خاصة ; لأنه من حق الطالب ، فإذا رضي بالانتصار عليه جاز ، قاله القاضي إسماعيل ، وأما حق الله تعالى : لا يترك بجميل بل يسجن حتى يقام عليه ، وإن كانت حاملا من زنى سجنت حتى تضع فترجم إن كانت ثيبا أو تجلد بعد زوال نفاسها ، فإن ذلك بإقرارها فأوسع لها ; لأن لها الرجوع ومن أجاز رجوعها من غير عذر أجاز أن تترك بغير حميل ، وإن تحملت فطلب من ثبت عليه حد بعد هروبه ، فإن كان ثبت ذلك ببينة ألزم الوفاء بالحمالة ، أو بإقرار فهل يلزم الطلب أم لا خلاف ، وفي هذا الركن أربع عشرة مسألة : [ ص: 208 ] الأولى ، في الكتاب : قلت : ما كان لك قبل فلان ضمنته ، لزمك ضمان ما استحق ، وكل متبرع بكفالة تلزمه لقوله صلى الله عليه وسلم : المؤمنون عند شروطهم . فإن مت قبل ثبات الحق فيثبت بعد موتك أخذ من تركتك ; لأنه تقدم سببه في الحياة ، ولو قلت : احلف أن ما تدعيه قبل أخي حق ، وأنا ضامنه . لزمك إن حلف ، وإن مت ففي تركتك ، وإن شهدت أنك ضامن بما قضي لفلان على فلان ، أو قلت : أنا كفيل بماله على فلان ، وهما حاضران أو غائبان أو أحدهما ، لزمك ; لأن من ألزم نفسه معروفا لزمه ، ولو قلت : بايع فلانا أو داينه فما فعلت من ذلك أنا كفيله ، لزمك إذا ثبت مبلغه ، قال غيره : إنما يلزم ما يشبه أن يداين مثله أو يبايع به ; لأن حاله كالشرط في شرطك ، والأول لاحظ عموم شرطك ومنعه مطلقا للجهالة عند التحمل ، ووافقنا ( ح ) قياسا على ضمان الدر ، ولو رجعت على الكفالة قبل المداينة صح ; لأنه لم يغره بخلاف احلف وأنا ضامن ، لا ينفعك الرجوع قبل اليمين ; لأنه حق واجب .

                                                                                                                فائدة في التنبيهات : ذاب بالذال المعجمة وسكون الألف ومعناه ما ثبت وصح .

                                                                                                                قال ابن يونس : لما جازت هبة المجهول جازت الحمالة به ، وعن ابن القاسم : إن تكفلت عنه ولم تذكر ما عليه جاز ، فإن غاب المطلوب فأثبت الطالب من الكفيل ، فإن لم يجد بينة وادعى أن له ألفا ، فله تحليف الكفيل على علمه ، فإن نكل حلف واستحق ولا يرجع الكفيل على المطلوب بما غرم بسبب نكوله ، إلا أن يقوله المطلوب وللوكيل تحليفه ، فإن نكل غرم ، وقوله : أحلف أن ما تدعيه قبل أخي حق إلى آخره إن أقر المطلوب بما غرم الحميل غرم له ، وإن أنكره [ ص: 209 ] فللحميل تحليفه ، فإن نكل غرم وليس له تحليف الحميل ; لأنه لا علم عنده ، ولا الطالب ; لأنه قد حلف أولا ، فأشبهت يمينه بيمين التهم التي بالنكول عنها يغرم ، وفي الموازية : المريض يقول : لي عندك ( كذا ) ثم يموت أن المطلوب يحلف ، وإن لم يكن بينهما خلطة إذ لا يتهم المريض في هذه الحال ، فإن نكل غرم إذا لم يكن عند ورثته علم وليس ذلك كهبة ما لم يقبض حتى مات الواهب ، لأنها هبة الذي عليه الدين عن أصل معاوضة للذي له الدين ، فلا يفتقر إلى القبض كحمل الصداق على الزوج للزوجة لا يبطله موت الحامل ، وقول الغير إذا قال : ما داينته به أنا كفيله لا يلزمه إلا ما يشبه ، ليس خلافا لابن القاسم ، والفرق أن له الرجوع بخلاف أحلف وأنا كفيله ، أنه في الثاني حل محل المطلوب ، والمطلوب لو قال ذلك لم يكن له الرجوع ، وفي الأول كقولك : عاملني وأنا أعطيك حميلا ، فلك الرجوع فكذلك هو لأنك لم تدخله في شيء ، قال اللخمي : في قوله احلف أن ما تدعيه قبل أخي حق ، لا يرجع على أخيه ; لأن بساط قوله يقتضي تبرئة أخيه في هذه المحاصة ولا يحلف له ، وقوله : ما ثبت لك قبل فلان ثم يموت ويثبت الحق ، قال ابن القاسم : هو في ماله وقيل : الحمالة ساقطة لأنها بعد العقد تجري على أحكام الهبات إذا مات الواهب قبل القبض ; لأن الحميل سلف الغريم وسلفه منفعة ، وسواء كانت الحمالة بسؤال من الغريم أو من الطالب ، وإن كانت في أصل العقد لم يسقط بموت الحميل ، أو بعد العقد وأغر الغريم بعد الحمالة فهي كالحمالة في أصل العقد ، ومن قال : داينه وأنا كفيل ، لم يكن له الرجوع إن سمى القدر الذي يداينه به ، وإلا ففي المدونة له الرجوع ، واختلف قول مالك في هذا الأصل إذا اكترى مشاهرة ، فقيل : لا يلزمه وعنه يلزمه شهرا ، وإن أعرت أرضا ولم تضرب أجلا هل تلزمه إلى مدة مثلها أو هي غير لازمة ، فعلى الأول تلزمه مداينة مثله ، وإن كانت مدة لزمت الأولى وسقط فوق ما يداين به ، وإن عامله بأكثر تعلق وأخذ فوق ما يعامل به [ ص: 210 ] سقط عن الكفيل جميع ذلك ، فإن ثبتت المداينة فكما تقدم فإن لم يعلم إلا بالإقرار فعن مالك : يلزم إذا رأى الشهود المبتاع إلا أن يكون إقراره بعد قيام الكفيل . وقوله : لا يداينه وهو أحسن ما في المدونة من اشتراط الثبوت ; لأن البزاز عادته المداينة بغير بينة ويختلف أيضا إذا قال : تداينه ، فقال : قد كنت داينته وقد مضت مدة تداينه في مثلها ; لأن ذلك لا يعلم إلا من قوله ، إلا أن يقوم دليل كذبه .

                                                                                                                الثانية ، في الكتاب : إذا أخذت من الحميل حميلا لزمه ما لزم الأصيل ; لأن الحمالة حق لك على الحميل فلك أخذ الحمالة بها كسائر الحقوق ، ووافقنا ( ح ) وابن حنبل غير ابن القاسم ، وكذلك لو تحمل رجل بنفس رجل وتحمل آخر بنفس الحميل أو تحمل ثلاثة رجال بنفس رجل وكذلك كل واحد منهم بصاحبه ، ومن جاء به منهم برئ والباقيان ; لأنه كوكيلهما في إحضاره فإن لم يكن بعضهم حميل بعض برئ وحده ، قال ابن يونس : إنما كان الأول حميلا لوجه الأصيل والثاني حميلا عن الحميل بالمال فمات الأصيل برئ حميل الوجه لتعذره ، وحميله يبرأ تبعا له ، وإن لم يمت الأصيل فغاب حميل الوجه والحميل عنه بالغرم معدوم أو موسر برئ ; لأن من تحمل عنه يبرأ بذلك ، وإن مات حميل الوجه لم تسقط الحمالة عند ابن القاسم بموته ، وسقطت عند عبد الملك وكأنه إنما التزم المجيء به إذا كان حيا وعلى قول ابن القاسم يلزم الوارث أن يأتي بالذي عليه الدين ، ولعله يريد إذا حل أجل الدين لا قبله لا فائدة فيه ، وكذلك حميله يقال له ما قيل لوارث الحميل ، وإن مات حميل الحميل الذي تحمل بالمال بقيت الحمالة ، ولم يذكر ابن القاسم الأخذ ; لأنه تحمل بحميل تحمل بالوجه وحميل الوجه لا يطالب قبل الأجل ، قال : وأرى أن يلزمه الغرم على مذهب ابن القاسم في الحميل بالمال يموت قبل محل الأجل ، فقد قال ابن القاسم : يلزمه الغرم ولو لم يتوجه على الغريم غرم ولأجل الأجل 0 [ ص: 211 ] فكذلك حميل الحميل ، وعلى قول عبد الملك في موت الحميل بالمال يوقف المال ; لأنه يرجع ولم يتوجه الآن ، وكذلك يكون الحكم عنده في حميل الحميل ، قال اللخمي : الحمالة بالحمالة إما بالمال أو بالوجه أو أحدهما بالمال والآخر بالوجه ، فالأول إن غاب الغريم أخذ الحميل الأول بالأداء عنه بعد محل الأجل فإن وجد غيما أخذ الثاني وإن غاب الحميل الأول كلف الثاني إحضار الغريم أو الحميل فأيهما حضر موسرا برئ ، وإلا غرم الكفالة بالمال وإن غابوا كلهم أبرئ بالقضاء من مال الغريم ; لأنه الأصل ، فإن أعدم فالحميل الأول ; لأنه أصل الثاني فإن لم يوجد فالثاني ، وإن كانا حميلين بالوجه وغاب الأصل كلف الأول إحضاره ، ويبرأ فإن عجز غرم المال ، فإن كان معسرا لم يغرم الثاني ; لأنه حميل وجه والذي تحمل به حاضر ، وإن غاب الغريم والحميل الأول لزم الثاني إحضار أحدهما ويبرأ ، فإن كان الذي حضر معسرا وإلا غرم المال ، وإن غابوا كلهم ووجد مال الآخر أخذ إلا أن يثبت فقر الغريم أو الحميل ، وإن كان الأول حميلا بمال والثاني بالوجه وغاب الأصيل غرم الأول ولا شيء على الثاني إن كان الأول فقيرا ; لأنه حميل وجه حاضر أو غاب الغريم والحميل فأحضر الآخر الغريم موسرا أو الحميل ، وإن كان معسرا وإلا غرم وإن غابوا كلهم ووجد للآخر مال أخذ إلا أن يثبت عسر الحميل الأول ، وإن كان الأول حميل وجه والثاني بالمال فغاب الأصيل كلف الأول إحضاره ، فإن عجز غرم وإن كان فقيرا غرم الآخر ; لأنه حميل مال وإن غاب الغريم والحميل الأول فأحضر الأخير أحدهما برئ ، إلا أنه لا يبرأ بإحضار الحميل إلا موسرا ، ويبرأ بإحضار الأصيل مطلقا لضمانه عن الأول المال ، والأصيل لم يضمن إلا وجهه وقد حضر وإن كانت الحمالتان بالمال فمات الغريم أخذ من ماله ، فإن لم يخلف شيئا غرم الأول بعد الأجل ، فإن أعدم غرم الثاني أو مات الأول ولم يجد إلا إن لم يوجد الآن من تركته شيء حتى يحل الأجل على الصحيح من المذهب ويلتدا بمال الغريم . [ ص: 212 ] فإن لم يوجد له شيء أخذ من الأخير ، وإن كانا حميلي وجه فمات الغريم سقطت الحمالتان لتعذر الوجه ، وإن مات الأول سقطت عن الثاني ، واتبعت ذمة الميت إلا أن يكون الغريم موسرا ، وإن مات الآخر لم تسقط الحمالة عنه على قول مالك ، وسقطت على عبد الملك ، فإن مات الأخير بقيت الحمالتان .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية