الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الباب الثالث .

في الآداب الدقيقة والأعمال الباطنة .

بيان دقائق الآداب وهي عشرة :

الأول : أن تكون النفقة حلالا وتكون اليد خالية من تجارة تشغل القلب وتفرق الهم حتى يكون الهم مجردا لله تعالى والقلب مطمئنا منصرفا إلى ذكر الله تعالى وتعظيم شعائره .

وقد ، روي في خبر من طريق أهل البيت : إذا كان آخر الزمان خرج الناس إلى الحج أربعة أصناف : سلاطينهم للنزهة وأغنياؤهم للتجارة ، وفقراؤهم للمسألة ، وقراؤهم للسمعة وفي الخبر إشارة إلى جملة أغراض الدنيا التي يتصور أن تتصل بالحج فكل ذلك مما يمنع فضيلة الحج ويخرجه عن حيز حج الخصوص لا سيما إذا كان متجردا بنفس الحج بأن يحج لغيره بأجرة فيطلب الدنيا بعمل الآخرة .

وقد كره الورعون وأرباب القلوب ذلك إلا أن يكون قصده المقام بمكة ولم يكن له ما يبلغه فلا بأس أن يأخذ ذلك على هذا القصد لا ليتوصل بالدين إلى الدنيا ، بل بالدنيا إلى الدين .

فعند ذلك ينبغي أن يكون قصده زيارة بيت الله عز وجل ومعاونة أخيه المسلم بإسقاط الفرض عنه .

وفي مثله ينزل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدخل الله سبحانه بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة الموصي بها ، والمنفذ لها ومن حج بها عن أخيه ولست أقول لا تحل الأجرة أو يحرم ذلك بعد أن أسقط فرض الإسلام عن نفسه ولكن الأولى أن لا يفعل ولا يتخذ ذلك مكسبه ومتجره فإن الله عز وجل يعطي الدنيا بالدين ، ولا يعطي الدين بالدنيا .

وفي الخبر : مثل الذي يغزو في سبيل الله عز وجل ويأخذ أجرا مثل أم موسى عليه السلام ترضع ولدها وتأخذ أجرها فمن كان مثاله في أخذ الأجرة على الحج مثال أم موسى فلا بأس بأخذه فإنه يأخذ ليتمكن من الحج والزيارة فيه وليس يحج ليأخذ الأجرة بل يأخذ الأجرة ليحج كما كانت تأخذ أم موسى ليتيسر لها الإرضاع بتلبيس حالها عليهم .

التالي السابق


(الباب الثالث في الآداب الدقيقة والأعمال الباطنة) .

في أفعال الحج، وقد قسم هذا الباب على قسمين: الأول الآداب والتي لدقتها خفيت على كثير من الحجاج، والثاني في الأعمال التي تبطن عن إدراك أكثر الفهوم، وهي كالأرواح لأفعال الحج .

(بيان دقائق الآداب وهي عشرة:)

(الأول: أن تكون النفقة) التي ينفقها في هذا السبيل (حلالا) طيبا، فقد أخرج أبو ذر الهروي في منسكه، عن أبي هريرة رفعه: من يمم هذا البيت بالكسب الحرام شخص في غير طاعة الله فإذا أهل ووضع رجله في الركاب، وبعث راحلته، وقال: لبيك اللهم لبيك نادى مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك كسبك حرام، وثيابك حرام، ورحلتك حرام، وزادك حرام ارجع مأزورا غير مأجور وأبشر بما يسوءك، وإذا خرج الرجل حاجا بمال حلال، ووضع رجله في الركاب، وبعث راحلته، وقال: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك أجبت بما تحب راحلتك حلال وثيابك حلال وزادك حلال ارجع مبرورا غير مأزور وائتنف العمل.

وأخرج ابن الجوزي في مثير العزم، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رفعه إذا حج الرجل بمال من غير حله، فقال: لبيك اللهم لبيك قال الله "عز وجل": لا لبيك ولا سعديك هذا مردود عليك، وأخرج سعيد بن منصور، عن مكحول يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع لا تقبل من أربع: نفقة من خيانة أو غلول أو مال يتيم في حج ولا عمرة ولا صدقة ولا جهاد، وأخرج ابن الجوزي في مثير العزم، عن أحمد بن أبي الجواري، عن أبي سليمان الداراني أنه قال: بلغني أنه من حج من غير حله، ثم لبى، قال الله عز وجل: لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما في يديك [ ص: 432 ] (وتكون اليد خالية) ، ولفظ القوت: فارغة (من تجارة تشغل القلب) ، فإنه لا محالة أن قلب الإنسان حيث ماله، ولذا قال عيسى عليه السلام: اجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم عندها، وقد تقدم ذلك في أسرار الزكاة، (وتفرق الهم) أي: تجعل الهم الواحد هموما متشعبة (حتى يكون الهم مجردا لله تعالى) لا لغيره، (والقلب) ساكنا (مطمئنا) مملوأ بأنوار الذكر (متفرغا) عن الهوى (إلى ذكر الله تعالى، ومعظما لشعائره) ، وفي بعض النسخ: وتعظيم شعائره ناظرا أمامه غير ملتفت إلى ورائه (فقد روي في خبر) طويل (من طريق أهل البيت: إذا كان آخر الزمان خرج الناس في الحج أربعة أصناف: سلاطينهم للنزهة) ، أي: التنزه والتفرج (وأغنياؤهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقراؤهم للسمعة) ، هكذا هو في القوت، وقال العراقي: رواه الخطيب من حديث أنس بإسناد مجهول، وليس فيه ذكر السلاطين .

ورواه أبو عثمان الصابوني في كتاب المائتين، فقال: تحج أغنياء أمتي للنزهة، وأوساطهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقراؤهم للرياء والسمعة اهـ .

قلت: وهكذا أخرجه ابن الجوزي في مثير العزم بلفظ: يأتي على الناس زمان. ... فساقه، والديلمي في مسند الفردوس، وأما الذي في المائتين للصابوني قال: أخبرنا أبو سور الرستمي أنبأنا أبو نصر المطري، حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى الخالدي، حدثنا أبو الليث نصر بن خلف بن سيار، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن الهيثم الضرير المعلم، حدثنا أبو زكريا يحيى بن نصر، حدثنا علي بن إبراهيم، عن ميسرة بن عبد الله الشتري، عن موسى بن جابان، عن أنس قال: لما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أخذ بحلقة باب الكعبة، ثم قال: يا أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا فإنى مخبركم باقتراب الساعة ألا من اقتراب الساعة إقامة الصلاة.... فساق الحديث بطوله .

وأورده أيضا من طريق سليمان بن أرقم، عن الحسن، عن أنس ومن طريق جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني، عن أنس ودخل محدث بعضهم في بعض اختلفت ألفاظهم، والمعنى واحد ومتن الحديث بطوله لإبراهيم بن الهيثم الضرير وفي كل مرة يقول سليمان: وإن هذا الكائن في أمتك يا نبي الله، ويقول صلى الله عليه وسلم: أي والذي نفسي بيده عندها يكون كذا وكذا، وقد رأيت الحافظ العراقي اختصر المائتين في نحو عشر ورقات فذكر هذا الحديث فيما رأيته بخطه، وقال أبو عثمان الصابوني بعد أن أورد هذا الحديث: هذا حديث غريب لم أكتبه إلا من هذا الطريق عن الشيخ، والله أعلم .

(وفي الخير) المذكور (إشارة إلى جملة أغراض الدنيا التي يتصور أن تتصل بالحج) ، أي يمكن توصلها به (فكل ذلك مما يمنع فضيلة الحج) ، ويذهب بها (ويخرجه عن حيز حج الخصوص) ويدخله في حد حج العموم (لا سيما إذا كان متجرا بنفس الحج بأن يحج لغيره بأجرة) مخصوصة (فيطلب الدنيا بعمل الآخرة وقد كره الورعون) من السلف الصالحين (وأرباب القلوب ذلك) أي طلب الدنيا بعمل الآخرة (إلا أن يكون قصده) ونيته (المقام بمكة ) أي المجاورة بها (ولم يكن له) من المال (ما يبلغه) إليها (فلا بأس أن يأخذ ذلك على هذا القصد لا ليتوصل بالدين إلى الدنيا، بل بالدنيا إلى الدين وعند ذلك) وفي نسخة فعند ذلك (ينبغي أن يكون قصده) من حركته (زيارة بيت الله عز وجل ومعاونة أخيه المسلم بإسقاط الفرض عنه، وفي مثله ينزل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل الله سبحانه بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة الموصي بها، والمنفذ لها ومن حج عن أخيه ) ، قال العراقي: رواه البيهقي من حديث جابر بسند ضعيف اهـ .

ولفظ القوت وفي الخبر يؤجر في الحجة الواحدة ثلاثة، ويدخل الجنة الموصي بها، والمنفذ للوصية والحاج الذي يقيمها; لأنه ينوي خلاص أخيه المسلم والقيام بفرضه (ولست أقول لا تحل الأجرة أو يحرم ذلك بعد أن أسقط فرض الإسلام عن نفسه) ، كما هو مذهب الشافعي.

وقال مالك وأبو حنيفة: لو لم يحج لنفسه وفيه تفصيل سبق (ولكن الأولى أن لا يفعل) ذلك، (ولا يتخذ ذلك مكسبه ومتجره) ، وسببا لتحصيل الحطام الدنيوي (فإن الله تعالى يعطي الدنيا بالدين، ولا يعطي الدين بالدنيا) ، وأصل هذا السياق لصاحب القوت، ولفظه: وأكره أجر الحج فيجعل نصبه وعناه لغيره ملتمسا غرض الدنيا، وقد كره ذلك بعض العلماء، ولأنه من أعمال الآخرة، ويتقرب به إلى الله تعالى يجري مجرى [ ص: 433 ] الصلاة والأذان والجهاد ولا يؤخذ على ذلك أجر إلا في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص واتخذه مؤذنا: لا يأخذ على الأذان أجرا، وسئل عن رجل خرج مجاهدا فأخذ ثلاثة دنانير، فقال: ليس له من دنياه وآخرته إلا ما أخذ فإن كان نية عبد الآخرة أو همته المجاورة واضطر إلى ذلك، فإن الله تعالى قد يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا رجوت أن يسعه ذلك، (وفي الخبر: مثل الذي يغزو في سبيل الله تعالى ويأخذ أجرا) ولفظ القوت: مثل المجاهد الذي يأخذ في جهاده أجرا (مثل أم موسى عليه السلام) ، واختلف في اسمها على أقوال أشهرها يوحانذ بنت حنة، وقصتها مذكورة في القرآن (ترضع ولدها وتأخذ أجرها) ، ولفظ القوت: يحل أجرها وترضع ولدها. قال العراقي: رواه ابن عدي، وقال: منتفي الإسناد منكر المتن اهـ .

(فمن كان مثاله في أخذ الأجرة على الحج مثال أم موسى فلا بأس بأخذه; لأنه يأخذ ليتمكن من الحج والزيارة وليس) في نيته أن يحج (ليأخذ الأجرة بل يأخذ الأجرة ليحج كما أخذت أم موسى ليتيسر لها الأوضاع بتلبيس حالها عليهم) ، ولفظ القوت: هذا إذا كانت نيته الجهاد، واحتاج إلى معونة عليه، كذلك من كانت نيته في حجته الآخرة والتقرب إلى الله تعالى بالطواف والعمرة بعد قضاء ما عليه لم يضره أجر حجه إن شاء الله تعالى .




الخدمات العلمية