الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المطلب الثاني: قوة إنفاذ الحق:

تقرر لدينا سابقا أن الشريعة الإسلامية سعيا منها إلى إحقاق الحق، وتمكين الناس من التصرف في حقوقهم، ألزمت نفسها هذا الأمر فجعلت طريق لزوم الحق هو الشرع نفسه.

ولعل أحدهم يقول: والقضاء أيضا ملزم، ولولا ذلك لما استقام الحق لأحـد، فأقول: إن إلزام القضاء عائد إلى الشرع، لأن الشريعة المتقرر [ ص: 112 ] هيبتـها في النفوس ألزمت أتباعها الانقياد لأحكام القضاء، لقوله تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (النساء:65).

ولولا إلزام الشرع والتزام أتباعه لما استقام أمر القضاء.

ولكن الشريعة، إذ انفردت بالإلزام، أوكلت مهمة إنفاذ الأحكام للقضاء لقصورها عن تمكين الناس من حقوقهم، فليس كل أحد يلتزم الحق ذاتيا، إذ النفوس مجبولة على تحصيل المنافع بما ركب فيها من قوة الشهوة.

وقديما قال المتنبي:


والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفـة فلعلة لا يظلـم [1] [البسيط]



ولهذا روى مالك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قوله: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" [2] .

هذا وإن اقتران الحديد -وهو من القوة- بوجوب إقامة العدل بين الناس في الأرض في قوله تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن [ ص: 113 ] الله قوي عزيز ) (الحديد:25)، فيه إشارة إلى أن "القوة" ينبغي أن يتم إعدادها واتخاذها، لتكون سندا للحق والعدل اللذين اشتمل عليهما الكتاب، وما تضمنه من "البينات"، إذ كل من الحق والعدل وإن كان يشتمل في ذاته على عناصر إقناعية يتقبلها المنصفون والعقلاء، غير أنه كثيرا ما يبغى عليه، فلا بد له من قوة تحميه تجاه أعدائه من أولي المطامع والأهواء والظلم والاستبداد في الأرض بغية الاستعلاء فيها بغير الحق [3] .

هذه "القوة"، هي قوة إنفاذ الحق والعدل، فكما أن الحكم إذا لم يكن له مستند من الشرع، يصبح حكما عديم الفائدة لبطلانه في أصل الشريعة، كذلك الحق الذي يحكم به إذا لم تكن له سلطة تنفذه، يصبح الحكم عديم الفائدة، إذ قيمة الحكم في الإلزام به.

وقد تقرر في كلام القرافي أنه التنفيذ



[4] ، وهو تبليغ صاحب الحق لحقه بالفعل وإخراجه من الذي هو عليه بسجن أو غيره، وأخذ المال بيد القوة [ ص: 114 ] ودفعه لمستـحقه، وتخليص سائر الحقوق وتمكينها بأيدي مستحقيها، كتسليم الولد لحاضنته، وإرجاع المعتدة من طلاق لبيت سكناها ونحو ذلك. فالتنفيذ غير الحكم والثبوت. وليس كل الحكام لهم قوة التنفيذ لا سيما الحاكم الضعيف، وقد تجعل للحاكم قوة التنفيذ وقد تسلب منه كما هو الحال اليوم

[5] .

ولهـذا قال ابن القيم في "إعـلام الموقعـين" تعليقا على قول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : "فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له".

"ومـراد عمر بذلك التحريض على تنفيـذ الحق إذا فهمه الحاكم، ولا ينفع تكلمه به إن لم يكن له قوة تنفيذه. وقد مدح الله سبحانه أولي القوة في أمره والبصائر في دينه، فقال: ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ) (ص:45)، فالأيدي: القوة على تنفيذ أمر الله، والأبصار: البصائر في دينه" [6] .

ولضمان قوة إنفاذ الحق اشترط الفقهاء في القاضي أن يكون صليبا، عظيم الصلابة، قويا شديدا في الحق لا يميل إلى الهوى. وقد تقدم بيان ذلك في مبحث شروط تقلد القضاء. [ ص: 115 ]

ذكر ابن بشـكوال، رحمه الله، في كتاب "الصلـة": أن القاضي عبد الرحمن بن محمد [7] "كان مشهورا في أحكامه بالصلابة في الحق ونصرة المظلوم وقمع الظالم وإعزاز الحكومة" [8] .

وذكر الخشني في "قضاة قرطبة": أنه لما ولي عمرو بن عبد الله قضاء الجماعة في الأندلس، وكان من الموالي شق ذلك على العرب، فبلغ ذلك الأمير فقال: وجدت فيه ما لم أجـد فيهم. وقد وصفـه الخشني بأنه كان إذا نطق كأنما ينطق من صدع صخرة مع الهيبة الشـديدة والمروءة الظاهرة، لا ينظر إلا لمحا ولا ينـطق إلا تبسـما. كان إذا قعد لا يقترب منه خصم ولا يدنو منه أحد، وكذلك إذا ركب لا يصحبه صاحب ولا يسير إلى جنبه راكب، مع قوة الشكيمة والصلابة الشديدة، والتنفيذ الوشيك وقلة المداراة لمن لصق بالخليفة من وجوه خاصته وعيون رجاله [9] .

وللسبب ذاته أجاز الفقهاء عزل القاضي إذا ثبت ضعفه عن القيام بالحق وإنفاذه. وقد تقدم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزل أبا مريم عن القضاء، وذلك أنه اختصم إليه رجلان في دينار، فحمل القاضي دينارا فأعطاه [ ص: 116 ] للمدعي. فكتب عمر: إني لم أوجهك لتحكم بين الناس بمالك وإنما وجهتك لتحكم بينهم بالحق، وعزله [10] .

ولهذا قال الله تعالى حكاية عن ابنة شعيب ( إن خير من استأجرت القوي الأمين ) (القصص:26)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) [11] .

ولعل اعتبار القضاء من الوظائف المندرجة تحت الخلافة التي هي نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا، أكسبت القاضي قوة استمداد ولايته من ولاية الخليفة باعتباره نائبا عنه. ولهذا اعتبر الماوردي أن التمرد على القضاء كالتمرد على الخلافة [12] .

ولقد شهد القضاء الإسلامي وقائع كثيرة أثبتت قوة القضاة في إنفاذ الحق، من ذلك رفض سوار بن عبد الله أمر الخليفة المنصور إخراج أرض من يد تاجر وإعطائها لأحد القواد، بعدما قامت البينة أنها للتاجر [13] .

وفي "أخبار القضاة" لوكيع: أن شريحا قضى على رجل فحبسه في السجن، وأرسل إليه بشر بن مروان أن خل عن الرجل. فقال شريح السجن [ ص: 117 ] سجنك والبواب بوابك، وأما أنا فإني رأيت عليه الحق فحبسته لذلك، وأبى أن يخلي عنه [14] .

ولعل موقف القاضي ابن شبرمة [15] يؤكد هذا المعنى ويقطع بقوة القضاة في إنفاذ الحق. فقد روي أنه قضى مرة على أحد القواد وقال له: إياك والله لئن هربت لأتبعنك القضاء. وقال لخصمه: خذ منه كفيلا أو وكيلا [16] .

وما يؤكد هذا المعنى ما عرف في القضاء الإسلامي بقضاء المظالم [17] ، "وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء، وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبـة تقمع الظـالم من الخصمين وتزجر المعتـدي، وكأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه" [18] .

ولهذا النوع من القضاء أهميته في قمع الظلم والضرب على أيدي المعتدين، ورد الحقوق إلى أصحابها مهما كانت مكانتهم الاجتماعية أو الوظيفية. [ ص: 118 ]

وتبدو أهمية هذا النوع من القضاء في ناحيتين اثنتين:

أولهما: أن يكون أحد أطراف الخصومة أو كلاهما من ذوي القوة والجاه والنفوذ، سواء استمد ذلك من عمله الوظيفي الذي يمارسه أو بسببه أو بأي سبب آخر.

ثانيهما: يقتضي هذا النوع من القضاء بالضرورة أن يكون القاضي الذي يحكم الخصومة ذا هيبة ومكانة رفيعة وعلم جم وحذق للأمور. ويستمد هذه القوة إما عن طريق مكانته الاجتماعية والعلمية وسلوكيته العامة أو عن طريق ارتباطه المباشر بالخليفة أو الحاكم [19] .

على أن سعي الشريعة في تقرير مبدأ إنفاذ الحق لم يقتصر على وجه دون آخر، بل لقد أكدت الممارسات القضـائية الطـلائعية أن هذا المبدأ لا ينبغي أن يتجاوز المقصد العام من القضاء، وهو "العدل" بمعناه الشامل

[20] . [ ص: 119 ]

من ذلك أن أبا موسـى الأشعري رضي الله عنه أساء معاملة شارب الخمر بأن زاد على جـلده، فحـلق شعره وسـود وجهه، ونادى في الناس بعدم مجـالسته ومؤاكلته، فأعطى عمر رضي الله عنه الرجـل مائتـي درهـم تعويضا عما أصـابه وترضية له لما لحقه من إساءة، وكتب إلى الوالي يقول: لئن عدت لأسودن وجهك ولأطـوفن بك في الناس. وأمره أن ينادي في الناس أن يؤاكلوه ويجالسوه [21] .

والحاصل من كل هذا أن قوة إنفاذ الحق، باعتبارها صنو لزومها وتكون أبدا رديفه، لا تتحقق على الوجه الأتم إلا في ظل قوة تحمي هذا الحق، وهي قوة القضاء. ولا تتحقق على الوجه الأكمل إلا في إطار مبدأ العدل الذي يستلزم طبيعة إنفاذ الحق. [ ص: 120 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية