الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المطلب الثاني: مباشرة الأمين على الحق:

لئن كان شأن الحق أن يكون تصريفه بيد صاحبه -كما تقدم- إلا أن ذلك قد يتعذر في عديد الحالات، وذلك كالنيابات في الولايات والوكالات لتعذر مباشرة صاحب الحق جميع ماله مباشرته، إما لكثرة أشغاله، إذ قد تكثر وقد تبعد، وقد يعرض الاشتغال بالأهم عن المهم [1] .

وقـد ورد في سيرة ابن هشام ( أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رد أمانات قريش ليلة الهجرة ) [2] .

كما ورد في "الصحيح" من الحديث: ( أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام ) [3] . [ ص: 71 ]

وقد يكون تصريف الحق بيد صاحبه غير متعذر، ولكن تصرفه فيه يجعل الحق معرضا للتلاشي، كما في حقوق المحاجير والسفهاء، فجعلت هذه الحقوق بيد الأوصياء والأمناء حفظا لها من التلاشي والضياع.

وقد لا يكون تصريف الحق بيد صاحبه متعذرا، ولكن يمنع صاحب الحق من مباشرة حقه لتعلق حقـوق (الغير) بحقه، وذلك كما في أموال الغـارمين والمدينين.

جـاء في "سير أعلام النبلاء" للذهبي: "عن ابن عمر قال: لما هلك أسيد بن الحضير، وقال غرماؤه بما لهم، سأل عمر: في كم يؤدي ثمرها ليوفي ما عليه من دين؟ فقيل له: أربع سنين. فقال لغرمائه: ما عليكم أن لا تباع. قالوا: احتكم (أي أحكم بما رأيت) وإنما نقتص في أربع سنين، فرضوا بذلك، فأقر المال لهم. قال: ولم يكن باع نخل أسيد أربع سنين من عبد الرحمن بن عوف، ولكنه وضعه على يـد عبد الرحمن للغرماء" [4] .

على أن تلك الحقوق المؤتمن عليها قد تكون متمحضة لغير المؤتمن عليها، كما في حقوق الولاء من النساء في النكاح بالنسبة لأوليائهن. وقد تكون مخلوطة من حق المؤتمن ومن غيره كحقوق الأزواج بعضهم مع بعض، وحقوق الشركاء في الملك والتجارة كالمضاربة والمغارسة. فلتيسير سير الأعمال وإقامة المصالح على الوجه الأتم، ائتمنت الشريعة أحد الفريقين على إقامة تلك الحقوق لامتزاج الحقين وتكرر استعمالهما في مختلف الأزمان [ ص: 72 ] والأمكنة والأحوال، بحيث كان جعلها بيد أحد من لهم فيها حق أولى من جعلها بيد ثالث أو إقامة رقباء على تنفيذها.

وقد يتعذر ائتمان أحد الفريقين على إقامة تلك الحقوق، كما إذا بدا من المؤتمن خلل في تصرفه، فيرجع النظر فيه للقضاء بجعل الحق تحت يد أمين على الجانبين، مثل إقامة ناظر على الوقف إذا ساء تصرف الموقوف عليه فيه. وكذلك إقامة المقدمين الوقتيين لمحاسبة الأوصياء ونظار الأوقاف ووضع المتنازع فيه الموقوف تحت يد أمين [5] .

وذكر ابن أبي الدم في "أدب القضاء" أن على القاضي النظر "في أمر الأمناء والقوام فيتفقد أحوالهم، فيعزل من يرى عزله مصلحة وجائزا، ويبقي من يرى إبقاءه على ما يسوغه الشرع وتقتضيه المصلحة" [6] .

غير أنه من حق الوصي إذا عزله غير الذي قدمه أن يبين له الوجه الذي من أجله عزله، وأن يعـذر إليه في من شهد عليه بالمعنى الذي أوجب عزله، إذ ليس له أن يعزله إلا بأمر يثبت عليه عنده.

وأما إذا عزله الذي ولاه، فإن كان عزله بأمر رآه باجتهاده فليس عليه أن يعلمه به، وإن كان عزله لجرحة ثبتت عليه عنده، فمن حقه أن يعذر في ذلك إليه [7] . [ ص: 73 ]

على أن هذا الائتمان كما هو واقع من طريق القضاء، كذلك قد يكون مجعولا من قبل الشرع كائتمان الآباء على أموال أبنائهم، وقد يجعل بعضه من صاحب الحق كالوكالة وعقود الشركات في القراض والمساقاة [8] .

وضابط تصرف الأمين على الحق المؤتمن عليه، أن يكون مظنة المصلحة بحسب اجتهاده المستند إلى الوسائل المعروفة في استجلاب المصالح، فليس له أن يكون في تصرفه جبارا ولا مضياعا، ولهذا اشترطت فيه العدالة لضعف الوازع عن التقصير والخيانة في جلب المصالح ودرء المفاسد [9] .

وقد بين القرافي في الفرق الثالث والعشرين والمائتين أن كل من ولي ولاية من الخلافة إلى الوصية لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة أو درء مفسدة، فهم معزولون عن المفسدة الراجحة والمصلحة المرجوحة والمساوية، وما لا مفسدة فيه ولا مصلحة. فمن هنا قال الشافعي: لا يبيع الوصي صاعا بصاع لأنه لا فائدة في ذلك [10] .

ويتخرج على هذه القاعدة أن "كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل" [11] ، و"كل متصرف عن الغير فعليه أن يتصرف بالمصلحة" [12] . [ ص: 74 ]

على أن وجوب التصـرف بالمصـلحة هنا مقيد بعدم المعـارض [13] ، فلا يتصرف الأوصياء والأمناء إلا بما هو الأصلح درءا للضرر والفساد، وجلبا للنفع والرشاد. ولا يقتصر أحدهم على الصـلاح مع القدرة على الأصلح، إلا أن يؤدي ذلك إلى مشقة شديدة، ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم مثل أن يبيعوا درهما بدرهم، أو مكيلة زبيب بمثلها [14] ، لقول الله تعالى: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) (الأنعام:152).

والأحسن في مال اليتيم قد يكون بحفظه وقد يكون بتثميره، وقد تواترت الآثار على دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة فيه

[15] ، وفي جواز خلط ماله بماله دلالة على جواز التصرف في ماله بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح

[16] . [ ص: 75 ]

وعليه، إذا وهب لليتيم شيء فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح، بل إن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرب بعضه، إذ المصلحة هي الغرض المقصـود من الشرائع، فيباح المحظور إذا أدى إلى مصلحة مؤكدة تكون أكبر من الضرر الناشئ عن المحظور [17] . وقيل يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم على البعض [18] ، لأن فوات البعض خير من تضييع الكل، وهو الأحسن في مثل هذه الحال.

وقد أشـار ابن عبد السـلام إلى جواز تعييب المال حفظا لأصله، لأن الشرع يحصـل الأصـلح بتفويت المصـالح، كما يدرأ الأفسد بارتكاب المفاسد [19] .

وإجمالا، فإن الأب في طفله أو الوصي في يتيمه أو الكافل في من يكفله، مأمور برعاية الأصلح له، وهو يصرفه في وجوه من النفقات، وكل ما يراه سببا لزيادة ماله أو حراسته من التلف جاز له بذل المال في تحصيله [20] . [ ص: 76 ]

وإذا اجتمع جماعة يصلحون للقيام بالأيتام قدم الحاكم أقومهم بذلك وأعرفهم بمصالح الأيتام وأشدهم شفقة ورحمة، فإن تساووا من كل وجه تخير، وجاز له أن يولي كل واحد منهم بعض الولاية ما لم يؤد ذلك إلى تعطيل مصالحها وتعطيل درء مفاسدها [21] .

وقد بين القرافي في الفرق السادس والتسعين بين قاعدة من يتعين تقديمه وبين قاعدة من يتعين تأخيره في الولايات والمناصب والاستحقاقات الشرعية، أنه يجب أن يقدم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها على من هو دونه. فيقدم في أمانة اليتيم من هو أعلم بتنمية أموال اليتامى، وتقادير أموال النفقات وأحوال الكوافل والمناظرات عند الحكام عن أموال الأيتام [22] .

وتعين تقديم النساء على الرجال في باب الحضانة، لأن الرجال ليسوا كالنساء في أهلية القيام بمصالح أمور الحضانة، فإن النساء أصبر على أخلاق الصبيان وأشد شفقة ورأفة وأقل أنفة عن قاذورات الأطفال، والرجال على العكس من ذلك في هذه الأحوال فتعين تقديم النساء عليهم لذلك [23] .

على أنه للقضاء منع المؤتمنين من الاستبداد بالتصرف في الحقوق التي ائتمنوا عليها إذا عمت البلوى بسوء تصرفهم فيها.. قـال ابن عطية في تفسير قول الله تعـالى: ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم [ ص: 77 ] رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) (النساء:6)، المقتضـي تفويض ترشيد اليتيم إلى وصيه ما نصه: "قالت فرقة من أصحابنا: دفع الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده أو يكون ممن يأمنه الحاكم في مثل ذلك. وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان. والصواب في أوصياء زماننا أن لا يستغنى عن رفعه إلى السلطان، وثبوت الرشد عنده لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي ويبرئ المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت" [24] .

وعن ادعاء الوصي بعد عزله أنه كان ينفق على الأيتام من ماله، وأراد الرجوع بذلك عليهم، أجاب ابن رشـد: أنه لا يقبل قول الوصي في ذلك إلا أن تقـوم البينة أن مال الأيتام الذي بيده لم يكن يقوم بنفقتهم، وعليه فلا شيء له فيما ادعاه من أنه أنفق عليهم من ماله [25] .

والحاصل من كل هذا أن شأن الحق وإن كان الأصل فيه أن يكون تصريفه بيد صاحبه، إلا أن بعض الحقوق قد يجعل لأمانة غير صاحبه، وهو جعل إما من قبل الشرع أو القضاء أو من صاحب الحق نفسه.

وليس للمؤتمن على حق أن يتصرف فيه وفق هواه، ولكن تصرفه فيه منوط بالمصلحة جلبا وبالمفسدة درءا.. والقضاء في كل هذا يراقب أعمال المؤتمنين والأوصياء حفظا للحقوق أن تهدر أو يساء استعمالها. [ ص: 78 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية