الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مقاصد القضاء في الإسلام (إحقاق الحق) [الجزء الثاني]

الدكتور / حاتم بوسمة

الخاتمة

القضاء عامة من أهم وظائف الدولة، وهو في الإسلام من أهم الولايات التي تنهض عليها الأمة في سياسة الدنيا وحراسة الدين، وقد تضافرت الأدلة من النصوص ومن شواهد الحال على اعتباره وعلى وجوب إقامته، إذ به دفع الظلم ونصرة المظلوم ومنع الظالم من الاعتداء على الأمن والحرمات، وبه تحقق الأهداف العليا لصيانة المجتمع، فأي تقصير في حفظ الأمن لا شك آيل إلى زعزعة أمن الناس واستقرارهم، واختلال نظام الأمة ووهنها واختلاف كلمتها، لتفشي أسباب النزاعات والخصومات بينها، قال الله تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) (البقرة:251)، وقال تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) (الحج:40).

واعتبارا لهذه الخصوصية حظي القضاء لدى جميع الأمم باهتمام واحترام كبيرين، زادهما في الإسلام عناية الشرع به، فالقضاء في الإسلام أساسه العقيدة وأركانه الشريعة، والأمة تواكب سيره في إقامة الحق والعدل، والله من وراء ذلك محيط. [ ص: 159 ]

وقد أدى الاهتمام المتزايد به إلى جدل طويل حول الوسيلة المثلى لسلامته، فنشأ عن ذلك عدة قواعد تؤكد على استقلاله وتحرره من التبعية لأي جهة يمكن أن تؤثر عليه، وقد ظل هذا الاستقلال سمة بارزة في معظم القواعد والنظم الإنسانية.

وبهذه الخصوصية أيضا أصبح القضاة محلا للاعتبار والاحترام، وكأنهم مجموعة من الناس الأقرب إلى المثالية يتحملون أمانة إقامة العدل بين الناس، قال الله تعالى: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء:58).

ومن أجل ضمان حيادهم حرصت الشريعة على تركيز مبدأ حصانة القضاة، فلم تسمح لأي كان بالتدخل في شؤون القضاة أو أعمال القضاء. كما حرصت على توفير ما يكفيهم في حياتهم ومعاشهم، حتى لا تمتد عيونهم ولا أيديهم إلى حقوق (الغير).

والإسلام في ختامه وكماله، جاء رسالة دين ودنيا، غايته سعادة الإنسان في حاله ومآله. فالرسالة الأولى تحفظ له مآله، وهذا يفرض عليه إقـامة العـدل ونفي الظـلم. والعـدل من أسمـاء الله تعـالى ومن أوامره لخلقه. والظلم من محرماته على نفسه وعلى خلقه، قال الله تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) (النحل:90)، [ ص: 160 ] وجاء في الحديث القدسي قوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا ) [1] .

والرسالة الثانية جاءت بالدعوة إلى تكوين الأمة تكوينا متينا متلاحما غايته إقامة شعائر الله، قال الله تعالى: ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) (الحج:32).

هذا التكوين يقتضي وجود أسس تحفظ وجودها واستمرارها والعدل بينها ونفي الظلم عنها في كل شأن من شؤون حياتها.

ولما كان العدل ونفي الظلم صفتين نظريتين يتطلب تطبيقهما ولاية تعرف أحكامهما، فقد أصبح من اللازم على الأمة إيجاد ولاية عامة للقضاء يرجع إليها صاحب الحق إذا فقد حقه، ويعود إليها المظلوم إذا تعرض لظلم، وإذا لم تقم الأمة بذلك فهي في نظر الإسلام معطلة لحدود الله، صادة عن حكمه وخارجة عن شرعه.

ولقد اهتم الإسلام أيما اهتمام بالقضاء، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة، نبيا ورسولا، بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، حـاكما بما أنزل الله وقاضيا فيما يرفع إليه من خصومات أثناء حياته، واضعا أسس التقاضي لمن يأتي بعده وفق المبادئ والأسس التي بينها كتاب الله وفصلتها سنته. [ ص: 161 ]

والقضاء لم يكن مجرد ولاية من الولايات التي يستلزمها تسيير الحياة فحسب، بل كان مسؤولية عظمى، وأمانة كبرى أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطورتها، فلا يتولاها إلا من هو أهل لها في علمه وسلوكه وقدرته على إحقاق الحق والعدل بين الخصوم في حركاته وسكناته، لا يحابي أحدا منهم أو يميزه أو يفضله على الآخر.

وعـلى منهـج النبي صلى الله عليه وسلم سـار خلفـاؤه، رضي الله عنهم، يحكمون بـما أنـزل الله، ويرون في القضـاء مسؤولية كبرى سـواء في موضوعه أو إجراءاته، فكانت أقضيتهم مشـكاة يسـير على هداها من جاء بعدهم من قضاة السلف.

ومن هـذا المنهـج تفرعت فروع الفقه، وتعددت مسائله عن مسـؤولية القاضي، وما ذاك إلا لأنه حاكم لكل الناس، مؤتمن على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ومساواته بينهم في كل صغيرة وكبيرة أساس للعدل بينهم.

ولقد دفع الخوف من هذه المسؤولية عددا من الفقهاء إلى الاعتذار عن القضاء والهروب منه رغم معرفتهم أنه من أهم الولايات مرتبة وأعظمها منزلة، وأنه لازم للأمة لزوم الضرورة.

ولكي يكون القاضي أهلا لهذه المسؤولية وحمل الأمانة أجمع الفقهاء على وجوب أن يتوفر فيه عدد من الشروط لا يستقيم القضاء بدونها، مثل وفور العقل وكمال الفطنة والفهم الدقيق وغيرها. [ ص: 162 ]

والفصل في المنازعات لا بد أن يكون مبنيا على أسس يقبلها العقل. ومصدر هذا القبول العلم، ومصدر العلم معرفة الحلال والحرام. ولهذا فإن العلم بكتاب الله، ناسخه ومنسوخه، وما فيه من الأوامر والنواهي وسائر الأحكام، والعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تضمنته من أحكام الشريعة من أصول وفروع، ورد الفروع إلى أصولها والجزئيات إلى كلياتها والأحكام إلى مقاصدها وغاياتها، العلم بهذه كلها شرط لتقليد القضاء.

وليس القاضي مجرد حاكم يفصل في منازعات الناس وقضاياهم فحسب، بل هو مؤتمن على هذه القضايا، ويفترض في المؤتمن أن يكون صالحا في نفسه، مستقيما في أخلاقه، سليما في سلوكه، ومن جملة الاستقامة التزامه بالقيم والآداب الشرعية، وبعده عن مظان الشبه والريب.

والقضاء في نظر الإسلام عبادة، بل ومن أعظم العبادات منـزلة وأرفعها درجة، لأن أفضل العبادات ما كان نفعه أعم والقضاء من هذا الباب. والمفترض في المتعبد أن يكون طاهرا مستقيما.

والقضاء إلى ذلك أمانة، والناس يفترضون في القاضي أن يكون أمينا مع نفسه ومع غيره. فإذا اختلت ثقتهم فيه لسبب من الأسباب فلا يصح أن يحكم بينهم.

ومسـؤوليات القـاضي عديدة فيما يتعلق بالخصوم والأحكام. فبالنسبة للخصـوم يجب عليه المساواة بينهم في كل ما يتعلق بدعواهم ومعاقبة الملد منهم. [ ص: 163 ]

وبالنسبة للأحكام يجب عليه الامتناع عن الفتاوى في الخصومات، والامتناع عن قبول هدايا الخصوم، لأنه إن أفتى فسيصعب عليه التفريق بين ما يريده المستفتون منه، وإن قبل هدايا الخصوم فسيميل إلى أحدهم دون الآخر. وفي هذا منافاة لشرع الله القائم على العدل.

ومسؤولية القاضي في إصدار الأحكام تقتضي منه فهم ما يحكم فيه، لأن هذا الفهم أساس لصحة الحكم، وإن أشكل عليه أمر يتعلق بحقيقة الدعوى أو أقوال أصحابها وحججهم وشهودهم وجب عليه أن يمتنع عن الحكم حتى يتيقن منه.

والحديث عن مسؤوليته في الأحكام يقود إلى السؤال عن مدى جواز قضائه بعلمه.

ومع اختلاف الفقهاء في هذه المسألة، فإن القول بعدم جواز حكمه بعلمه أقرب للعـدل وأحفظ للأمانة وأبعد عن الشبه، وأزكى للقاضي وأسلم لعرضه.

والقاضي كسائر البشر يعتريه السهو والنسيان ويعرض له الخطأ. وهو لا يحكم لمجرد الحكم، بل لتحقيق غرض الحكم، وهو الحق. وإذا كان رد خطأ القاضي مطلبا شرعيا، فمن الأولى أن يكون الرجوع من نفسه إذا علم به، فإن لم يكن الرجوع منه، أمكن لقاض آخر نقض الحكم الأول، بناء على الأصل الشرعي في نفي الخطأ والبحث عن الحق ورده لأهله. [ ص: 164 ]

ولعلي أعرض أهم نتائج البحث فيما يلي:

1- لما كان الاجتماع البشري ضرورة حيوية في نهوض حياة إنسانية معتدلة، مع ما يقتضيه هذا الاجتماع من تبادل المنافع والمصالح والتعاون والتناصر على جلب المصالح ودرء المفاسد، وما يعرض له من مظاهر الانحلال والانخرام والفساد، كانت إقامة نظام القضاء ضرورة ملحة ومقصدا شرعيا يحد من جماح الشهوات، ويسد ثلمات الهرج والفتن والاعتداء، ويقيم مصالح الأمة على أساس العدل والحق.

2- نحت الشريعة الإسلامية في اختيار القضاة منحى الاعتدال والمساواة، وحرصت أن تحيط عملية الاختيار هذه بجملة من الضوابط الشرعية، وهي في جملتها تؤكد مقصد وجوب نصب قضاة يسوسون الأمة بالعدل. فلم تعهد إلى الخليفة أن ينصب القضاء من يشاء أو من يحرص عليه، بل قيدت تصرفه هذا بقاعدة: "تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة". فكان من لوازم الاختيار تنصيب الأصلح، فإن لم يوجد الصالح فأمثل موجود، فإن لم يوجد في الأمة إلا المفسدون فالأقل فسادا والأقل فجورا، لأن حفظ بعض الحقـوق مع قيام الولاية أولى من تضييع الكل مع انعدامها.

3- إن القضاء في الإسلام فرض محكم، يجب على إمام المسلمين إقامته، كما يجب على أفراد المسلمين أن يعاونوا إمامهم على إقامته على الوجه الذي يحقق المصلحة والعدالة في الأمة.

وذلك كأن تكون الحقوق مضاعة بجور أو عجز والأحكام فاسدة بجهل أو هوى، فيقصد إنسان من أهل القضاء أن يحفظ الحقوق ويحرس [ ص: 165 ] الأحكام، مع وجوب الحاجة إليه وغيره لا يقوم مقامه. فيجب عليه والحال هذه أن يسعى لطلب القضاء المنهي عنه في أصل الشرع، لأن في تفويت الطلب تفويتا للمقصد الأعظم من القضاء، وهو رفع التهارج ورد النوائب، وقمع الظالم ونصر المظلوم، وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكف الظالم عن ظلمه.

4- ليس نظام القضاء في الإسلام هيكلا ثابتا. ولا تحكمه قواعد جامدة، بل إن فيه من المرونة ما يجعله أشبه بالكائن الحي، الذي يتأقلم في كل زمان ومكان بحسب ما تمليه المصلحة وتقتضيه الضرورة. فمقصود القضاء إقرار العدل، وهو الغاية الثابتة التي لا تتحول، وأما طرائق العدل فمتعددة. فمن أي طريق تحقق العدل فثمة شرع الله.

5- إن القضـاء من أهـم الولايات التي تتعـلق بحياة النـاس، فهو ذو مسؤولية خطيرة تقتضي الكفاءة العلمية والخلقية في من يتولى القضاء. وجماع هذه الكفاءات وأساسها المتين الاستقامة والاعتدال؛ الاستقامة في الحياة الخاصة والعامة، والدين والسلوك، والاعتدال في الحكم والنظر في القضايا.

6-إن مقصد الشريعة من نظام مساعدي القضاة إجمالا لا يخرج عن معنى حسن سير القضاء، وهذا المعنى بدوره يعود إلى مسمى العدل وإحقاق الحق. فتعيين الحقوق وتوثيقها وصيانة الأحكام كلها تهدف إلى إقرار مبدأ الحق والعدل.

7- لما كان مجلس القضاء مقصـد كل مخاصم، وهو لا يسلم غالبا من الامتهـان بكثرة اللجاج والجدل، وحرصا من الشريعة على حماية [ ص: 166 ] حقوق الناس من الاعتداء والتطاول، فقد سعت إلى تحصين القضاء، لأن في هيبة القضاء رادعا لمن يمتد ناظره إلى حقوق (الغير)، فإذا رأى من سطوة القضاء وأخذه على يد الظالم سكنت نفسه ورغب في السلامة. ولولا ذلك لذهبت هيبة القضاء ومكانته من النفوس، فتتعطل المصالح وتسود الفوضى.

8- ضرورة أن يتسلح القاضي بتوخي الحيطة في إصدار الأحكام، فإن ذلك أسلم له في دينه، وأحرى أن يصيب الحق وأدعى إلى إقامة العدل، لذلك ينبغي عليه أن يستشير العلماء، ويستعين بأهل الخبرة فيما أشكل عليه مما يعرض له. ويتداول الرأي في الخصـومة التي تحتاج إلى إعمـال الرأي تثبتا من الحـكم واطمئنانا للدليل، واعتمـادا على ما هو أصلح للجماعة إذا تعذر وجود النص.

9- إن الأصل في القضاء أن يكون عاما، تشمل سلطة القاضي فيه كل أنواع الخصومات دون تقيد بمكان أو زمان، وقد تقتضي المصلحة العامة تخصيص القضاء بمكان محدد أو زمان معين، وكذلك تخصيص بعض القضاة بأنواع من الدعاوى.

10- إن حاجة الإنسان لقضاء عادل تتوفر فيه كافة الضمانات الأساسية، يتصل بمقتضاه كل ذي حق بحقه، أصبح في عصرنا الحاضر مبدأ أسـاسيا، تنادي البشرية بالالتزام به وتطبيقـه، خاصة وأن القانون الدولي ما فتئ يتطور في اتجاه سن القواعد والأحكام التي تتضمن عقوبات لكل من ينتهك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. [ ص: 167 ]

11- من الواضح أن الشريعة الإسلامية، إذ حدت الحقوق ورسمت الحريات وصانت الأعراض والدماء والأموال، كانت تهدف إلى جعل هذا أمرا لازما. والواضح أيضا من مقررات التشريع الإسلامي، وضمانا تاما لصيـانة هذه الحقـوق والحريات، إذا ما اعتـراها بعض الخلل في التطبيق أو الممارسة، إما تقصيرا أو تعنتا وإكبارا، أنها منحت القضاء سلطة الردع، وأحاطته بسياج من القيم والمبادئ حتى يكون خير ضامن لمقاصدها وغاياتها، واعتبرت أن المبادئ القضائية والأخلاقية مرتبط بعضها ببعض.

12- لما كان مقصود الشارع من إقامة نظام القضاء، هو بث روح العدل والتناصف في نفوس الخلائق، فقد حرص قبل إيجاد النظم القضائية والآليات العملية على غرس هذه الروح في قيم المجتمع الناشئ.

13- كمال الشريعة الإسلامية واهتمامها بحقوق الأفراد والجماعات ورعاية مصالحهم والحفاظ على أعراضهم وممتلكاتهم من اعتداء المعتدي وظلم الظالم.

14- أحاطت الشريعة الإسلامية استقلال القاضي بضمانات إدارية، لعله يأتي في مقدمتها ضمانات التعيين، وضمانات مدنية وجنائية، حفظت مضمونه ومحتواه.

15- توج نظام القضاء الإسلامي الاستقلال بمبدأ الشورى، وأقام جسرا من العلاقة بين الإمام والقاضي بحثا عن عدالة أنجع وأفضل. ولا شك أن مصلحة المجتمع في حسن سير قطاع العدالة على الوجه الأكمل، والمحافظة [ ص: 168 ] على معـدلات أدائه، هي التي تقف سببا موجبا للاعتراف للقضاة باستقلالهم، إذ بهذا الاستقلال يتوافر للقاضي المناخ المناسب للمبادرة والإقدام على أداء وظيفته دون تردد أو خوف يؤثر على حياده ويعدم إرادته ويخدش استقلاله.

16- قررت الشريعة الإسلامية المسؤولية الدينية للقاضي واعتبرتها أولى ضمانات العدل، ومزجت هذه المسؤولية بالعقيدة، مما اقتضى مراعاة القاضي للجانب التعبدي والروحي خلال ممارسته للقضاء. ولا غرو في ذلك، فإن الشريعة الإسـلامية باستهـدافها للعدل وحفظ الحقوق وصيانة الحريات، لا يمكن بحال أن تغفل عن إقرار هذا المبدأ الذي هو أساس استقلال القاضي من كل مؤثر سواء أكان ذاتيا أم خارجيا.

17- لما كان للقضـاء أهمية عظيمة في نفوس الناس، نحت الشريعة سدا للذريعة إلى تنـزيه ساحته وصيانة جوانبه، مما قد يشوبه ويدنس حرمته، سواء كان ذلك في القضاء ذاته أو في شخص القاضي. فمنعت القاضي من مباشرة أي عمل وظيفي قد يكون من انعكاساته التشكيك في نزاهة القضاء واستقلاله، وسلكت التشريعات الوضعية نفس المسار دعما لمبدأ حياد القاضي.

18- سعت الشريعة الإسلامية صيانة لمنصب القضاء، ودعما لمبدأ نزاهة التقاضي، وحتى يكون الحكم الصادر أقرب ما يكون إلى العدل، إلى بلورة جملة من الضمانات كفيلة عند قيامها بإبعاد مظان الشكوك والشبهات [ ص: 169 ] عن القاضي. فأحكام عدم صلاحية القاضي لنظر النـزاع، تشكل ضمانة مهمة للعدالة وسياجا متينا للقاضي تعصمه من الزلل.

19- إذا كانت حصانة القضاء من المبادئ المستقرة في التشريع الإسلامي، التي تمثل استقرار العدالة، فإنها تمثل أيضا أحد أهم المبادئ القانونية التي تنطوي على صيانة الحقوق وحماية الحريات.

فحصـانة القضـاء لم تقرر لمصـلحة القاضي فحسب، كما يتبادر إلى الذهن، بل قررت للمصلحة العامة المتمثلة في حماية حقوق المتقاضين واستقرار عملية التقـاضي باستـقرار القاضي في عمله، وصيانة كرامة العمل القضائي.

20- لا مراء أن إحقاق الحق هو الهدف الأسمى من القضاء، وهو من محاق حكمة الله وعدله. ولا مراء أيضا أن سبيل إحقاق الحق يمر حتما عبر طرق إظهار الحق. وإذا كان مقصد الشريعة من نظام هيئة القضاء على الجملة أن يشتمل على ما فيه إعانة على إظهار الحقوق، فإن من أولوياتها حينئذ أن تعمل على توسيع قاعدة البينات.

21- إن توجه الشريعة نحو توسيع قاعدة البينات، أمر اقتضته الضرورة والمصلحة، إذ أن إهمال النظر في الحوادث التي لم يقم على ثبوتها عند القاضي دليل قطعي مثلا، يترتب عليه اختلال نظام العالم واضطراب المعاملات والفساد في الأرض بأوسع معانيه وأجلى مظاهره، في حين أن النزول عن اشتراط العلم القطعي إلى الظني الراجح -مع احتمال وقوع الخطأ في [ ص: 170 ] الحكم- يؤدي إلى حفظ بعض الحقوق دون بعض. وحفظ (البعض) أولى من إهمال (الكل).

22- لم تكتف الشريعة الإسلامية في سبيل إحقاق الحق بإرساء مبدأ توسيع قاعدة البينات، الذي يقتضي اختلاف أساليب المرافعات، حتى أرشدت إلى كيفية تلقي هذه الطرق، وأباحت للضرورة والحاجة بعض الطرق لم تبحها في حالات أخرى، تماشيا مع مقاصد الشريعة في إظهار الحقوق وتبيينها، ومراعاة لمصلحة الناس. ولولا ذلك لانتهكت كثير من الحقـوق. فـدل هـذا عـلى أن الشريعـة الإسـلامية، إذ تتفاعل في المجتمع، لا تكتفي بوضع الأطر والمناهج بقدر ما توائم بين المتغيرات والثوابت، وهذا دليل على خلودها وأنها صالحة لكل زمان ومكان.

23- لا مراء أن الشريعة الإسلامية أولت مسألة إظهار الحقوق وتبيينها أهمية كبيرة، وقرنتها خاصة بالشهود لما في الشهادة من إحياء الحقوق، وفي تركها من إبطال لها وتضييعها. وجعلها الله من جملة الأمانات الواجب أداؤها.

24- لما كان مقصد الشريعة من الشهود الإخبار عما يبين الحقوق ويوثقها، كان القصـد منهم أن يكونوا مظنة الصـدق فيما يخبرون به. ولما كان هذا متعذرا في بعض الأحيان، كما هو واقع حال السفر، اقتضت الضرورة والمصلحة إشهاد غير العدول عند تعذر وجود العدول، وإقامة أصلحهم وأقلهم فجورا للشهادة عليهم. فإن لم يوجد يكتفى بالأمثل فالأمثل، لئلا تضيع الحقوق وتهدر الدماء وتعطل الحدود. وهذا نظر يتماشى [ ص: 171 ] ومقاصد الشريعة الرامية إلى حفظ المناصب والولايات الدينية من جهة، وإلى حفظ الحقوق والمصالح من جهة أخرى.

25- لئن كان الأصل في الشهادة أن تقع مستوفية أسبابها وشروطها، خالية من كل مانع قد يشوب صدقها، فيكون القضاء بأثرها رافعا لأسباب النزاع، قاطعا كل خصومة عن الاتساع، حتى يتحقق أمر الله بالقيام بالعدل. إلا أن هذا الأصل قد يتعذر أحيانا كثيرة فتقع الشهادة غير مستوفية لأحكامها للضرورة، ومنعها ذريعة إلى إبطال الحقوق وإتلاف أموال الناس، فكان القيام بها أولى من إهمالها صونا للمصلحة ودرءا للمفسدة.

26- إن مقصد تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها من الأمانات التي أمرنا الله تعالى بأدائها، رفعا لأسباب التواثب والتغالب وإفناء الناس بعضهم بعضا. وليكون الناس على بصيرة من أمرهم فيما يأتون من أعمال وتصرفات، ولأنه ليس أعظم في دين الله من اقتطاع حق امرئ مسلم دون وجه حق.

27- إن لتعيين أصول الاستحقاق بيانا لمقاطع الحق، ورسما لحدود الحرية الفردية، فلا يجد المتحاكمون في أنفسهم حرجا عند القضاء عليهم ويسلموا تسليما.

28- لما كان تعيـين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها من أعظم أسس التشريع في معاملات الأمة، كان اختصاص صاحب الحق بحقه ومباشرته له، حقا أصيلا ومقصدا شرعيا، تحقيقا لمبدأ المساواة وضمانا كافيا لحرية التصرف، وصيانة للحقـوق والحريات نفسها أن يبغى عليها أو تهدر أو يساء استعمالها. [ ص: 172 ]

29- لما كانت حرية التـصرف مقيـدة بالشرع، كانت الغاية منها أن تكون جلبا للمصالح ودرءا للمفاسد، وقد دلت كليات الشريعة وجزئياتها على أن المقصد العام من التشريع، هو حفظ النظام بجلب المصالح ودرء المفاسد.

30- إن موقف تحديد الحرية وتقييدها، موقف صعب وحرج ودقيق على المشرع غير المعصوم، فواجب ولاة الأمور التريث فيه وعدم التعجل، لأن ما زاد على ما يقتضيه درء المفاسد وجلب المصالح من تحديد الحرية يعد ظلما.

31- لئن كان شأن الحق أن يكون تصريفه بيد صاحبه، إلا أن بعض الحقوق قد يجعل لأمانة غـير صاحبه، إما لتعذر مباشرة صاحب الحق جميع ما له مباشرته، وإما لكون تصرفه فيه يجعل الحق معرضا للتلاشي، وهو جعل إما من قبل الشرع أو القضاء أو من صاحب الحق نفسه.

32- ينبغي أن يكون تصرف الأمين على الحق المؤتمن عليه مظنة المصلحة، بحسب اجتهاده المستند إلى الوسائل المعروفة في استجلاب المصالح، فلا يتصرف إلا بما هو الأصلح درءا للضرر والفساد، وجلبا للنفع والرشاد، ولا يقتصر أحدهم على الصلاح مع القدرة على الأصلح، ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم، ويتخرج على هذا أن كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل.

33- للقضاء منع المؤتمنين من الاستبداد بالتصرف في الحقوق التي ائتمنوا عليها، إذا عمت البلوى بسوء تصرفهم فيها، صيانة للحقوق وحفظا لها من الهدر والضياع. [ ص: 173 ]

34- إن من أجلى مقاصد الشريعة، إيصال الحقوق وتمكينها بيد أصحابها، إذ أن الدافع الأول لأسباب النـزاع أو لإعادة فتح بابه واستمراره، هو بقاء الحقوق في أيدي غير المستحقين لها.

35- لما كان المقصـد من نصب القضاة إنصاف المظلومين من الظالمين وتوفير الحقوق للمستحقين، كان لذلك التعجيل بإيصال الحقوق لأصحابها، وسلوك أقرب الطرق في القضاء واجبا على الفور، لما فيه من إيصال الحقوق إلى مستحقيها ودرء مفسدة بقاء الحقوق في أيدي غاصبيها، واستمرار الظالم على ظلمه قبل تمكين المحق من حقه. ولأن في تراخي الفصل في الحكم تعطيلا لمصالح الخلق وتعجيلا بزرع بذور الضعف والوهن في أوصال الأمة.

36- لئن كان سلوك أقصر الطرق في القضاء مقصدا شرعيا، إلا أن استيفاء طرق بيان الحق ضرورة ملحة لا تتعارض مع المقصد الشرعي بقدر ما تفعله في واقع الحال، بل لعل التهاون في هذا هو أول أسباب مفسدة تعطيل الأحكام باستئناف الخصام، واستمرار المنازعات وتطويل أمدها، وليس هذا قطعا من مقاصد الشريعة.

37- لما كان من مقاصد الشريعة إلى جانب تعيين الحقوق إلزام الناس بها، تعين لتحقيق تنفيذها إيقاع حرمتها في النفوس. فكان أول طرق لزوم الحق، هو الشرع نفسه بما تقرر في نفوس أتباعه أنه أعظم الشرائع. وإن يقين الأمة بسداد شريعتها تجعل طاعتها منبعثة عن اختيار. [ ص: 174 ]

38- لما كان إنفاذ الحق يقتضي إلزام الشرع، لزم لتوثيق إنفاذ الحق وإقامته، إقامة ولاة لأمورها، وإقامة قوة تعين أولئك الولاة على تنفيذها، فكانت الحكومة من لوازم الشريعة لئلا تكون في بعض الأوقات معطلة.

39- إنه بما احتوته هذه الشريعة الإسلامية من كنوز ودرر في مجال المحافظة على حقوق الناس ورعاية مصالحهم وفق مقاصد الشريعة الإسلامية، لهي أمور تستحق الوقفة التأملية منها، والاستفادة من تشريعاتها ونظمها من قبل المحاكم الوضعية والأنظمة القضائية.

40- إن علم القضاء من العلوم الحية التي تحتاج إلى مزيد من الكتابات المفيدة، سواء كانت الكتابة بشكل عام أو بشكل خاص، كما أنه من العلوم القابلة للتطور.

وفي الختام، أحمد الله جل ثناؤه وعز جاره أن وفقني لإتمام هذا البحث بعونه وفضله ومنه وكرمه.

وأعتذر عن التقصير، ولست أدعي أني قد أوجدت مفقودا أو أتممت ناقصا، وإنما قصدت إلى العرض بما هو أفضل، وتوخي ما هو أصوب بحسب الجهد.

والله أسأل أن يقيل العثرات ويستر العورات ويتجاوز عن السيئات، وأن يلهمنا الصواب، والله أسأل أن يصلحنا وأن يصلح بنا وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم إنه سميع قريب مجيب. [ ص: 175 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية