الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مقاصد القضاء في الإسلام (إحقاق الحق) [الجزء الثاني]

الدكتور / حاتم بوسمة

المطلب الثاني: الإجراءات التأديبية والجنائية:

اعتبارا لما يتمتـع به منصب القضاء من مكانة في التشريع الإسـلامي، ولما يحظى به من احترام في المجتمع، خص بعديد الإجراءات التي تضمن دوام هيبته في النفوس. وأقصد هنا حصانة القاضي ضد الإجراءات التأديبية أو الجنائية. ونيطت هذه الإجراءات بالخليفة الذي له حق تعيين القضاة أو من ينوبه.

وإذا كانت الشريعة الإسـلامية قـد توسعت في الحالات التي يسأل فيها القاضي باعتباره واحدا من المسلمين، إلا أنها قرنت ذلك بضرورة توفر الأسباب، وذلك كون المسألة لا تتعلق بمسؤولية القاضي داخل ولاية القضاء، بل وسلوكه خارجها. [ ص: 131 ]

ويبدو أن الفقهاء لم يفرقوا بين الجريمة الجنائية أو المخالفة التأديبية كسبب لتأديب القاضي، وذلك لأن طبيعة العقوبات في الشريعة الإسلامية، إما أن تكون على جرائم حدود أو على جرائم قصاص أو على جرائم تعازير. والخطأ التأديبي يكون أحد هذه الجرائم، فإذا حوكم الجاني بأحد العقوبات المقررة في التشريع الإسلامي، فإنها تمنع عنه المحاكمة التأديبية، لأنها متضمنة داخل العقوبات. ومعلوم أن الحدود أو القصاص تمثل أعلى العقوبات المقررة في الشريعة، فكانت كافية لتأديب الجاني وزجره [1] .

وأما في القوانين الوضعية، فالجزاءات التأديبية تغاير العقوبات الجنائية، فمعظم الجرائم التأديبية لا تدخل تحت حكم القوانين الجنائية، مما اقتضى تغاير العقوبتين، باعتبار أن الدعـوى التأديبية يقصد منها حماية الوظيفة، وأما الدعوى الجنائية فيقصد منها حماية المجتمع [2] .

وإذا كان بعضهم يرى أن الشريعة الإسلامية لا تتضمن المخالفات التأديبية، كونها تمنع محاكمة الشخص مرتين على فعل واحد [3] ، إلا أن هذا منه تأول بعيد، فالشريعة الإسلامية لا تسقط الجزاءات التأديبية، إلا حالة وجود اتحاد لأسباب المخـالفات التأديبية والجرائم الجنـائية، وأما حالة الاختلاف فلا مانع شرعا من تعدد العقوبة. [ ص: 132 ]

وعلى هذا يترتب على المسؤولية التقصيرية للقضاة، اتخاذ إجراءات تأديبية، إلا إذا تضمنت جريـمة جنـائية. وفي حالة ثبوتها، فإن القـاضي لا يحاكم تأديبيا بل تقيد العقوبة الصادرة ضده في ملف خدمته.

وأما إذا انتهت المحاكمة التأديبية والجنائية إلى تبرئته، وكانت مبنية على عدم وقوع الفعل منه، فإنه تتوقف محاكمته، إلا إذا كانت البراءة لأي سبب آخر، ففي هذه الحالة تعاد محاكمته لتحديد مدى توافر المخالفة التأديبية في حقه من عدمها [4] .

فالقاضي إذا أدين جنائيا سقطت ولايته وأصبح غير أهل لتولي القضاء، حتى وإن كانت المخالفة التأديبية تدخل في جرائم التعازير، وذلك لخطورة هذه الولاية في إقرار العدل، فلا يكون أول قائم على رأسها هو أول من يخرق هذا المبدأ، لهذا كانت العقوبة في حقه أشد، صيانة للمنصب.

جاء في "تبصرة الحكام": أن القاضي إذا أقر بأنه حكم بالجور أو ثبت ذلك عليه ببينة، كانت العقوبة في حقه موجعة ووجب عزله، ويشهر ويفضح ولا تجوز ولايته أبدا ولا شهادته وإن صلحت حاله وأحدث توبة، لما اجترم في حق الله تعالى. ويكتب أمره في كتاب لئلا يندرس الزمان فتقبل شهادته، والقاضي أقبح من شاهد الزور حالا [5] . [ ص: 133 ]

وعلى هذا فالجزاءات التأديبية للقضاة في الشريعة الإسلامية، تقوم على أساس المسؤولية العامة المتضمنة للمسؤولية الدينية والمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية. وجماع هذه المسؤوليات هي المسؤولية الدينية لقيامها على الخوف من الله عز وجل، ومراعـاة الجزاء الأخروي، كون القاضي مسؤولا أمام الله تعالى أولا، وأمـام القضاء الإسلامي ثانيا، حال مخالفته لأحكام الشريعة الإسلامية. هذه المسؤولية التي حملت كثيرا من الفقهاء على الإعراض عن تولي هذا المنصب

[6] .

يقول ابن فرحون: "إن خطة القضاء أعظم الخطط قدرا، وإن إليها المرجع في الجليل والحقير بلا تحديد" [7] .

ويقرر المالقي: أن خطة القضاء عند الفقهـاء المسـلمين قاطبة من أسمى الخطط، فإن الله تعالى قد رفع درجة الحكام، وجعل إليهم تصريف أمور الأنام، إذ يحكمون في الدماء والأبضاع والأموال والحلال والحرام، وهي خطة الأنبياء ومن بعدهم الخلفاء، فلا شرف في الدنيا بعد الخلافة أشرف من القضاء [8] . [ ص: 134 ]

إلى ذلك يتميز التشريع الإسلامي عن القوانين الوضعية، بوضعه لما يعرف في القضاء الإسلامي بأدب القاضي، وجعله مخالفته سببا للمسؤولية التأديبية.

وعليه فالمخالفات التأديبية في الشريعة الإسلامية، هي إتيان أي فعل يخالف الواجبات الشرعية، سواء كان ذلك داخل ولاية القضاء أو خارجها، حيث يعتبر أي خروج على واجبات الوظيفة من جرائم التعزير [9] .

وتعهد إلى الخليفة أو من ينوبه مهمة إيقـاع الجزاءات التأديبية حال وجود خطأ من القاضي يقتضي مثل هذه الإجراءات، والتي قد تصـل أحيانا إلى عزل القاضي [10] .

جاء في "تبصرة الحكام": أن على الإمام أو القاضي الجامع لأحكام القضاء أن يسأل عنهم من لا يتهم عليهم، لأن كثيرا من ذوي الأغراض يلقى في قلوب الصالحين من القاضي شيئا، ليتوصل بذلك إلى ذم الصلحاء له عند ذكره عندهم وسـؤالهم عنه، فإذا ظهـرت الشكية بهم ولم تعرف أحوالهم سـأل عنهم. فإن كانوا على طريق الاستقامة أبقاهم، وإن كانوا على غير ذلك عزلهم [11] . [ ص: 135 ]

وأما الحصانة ضد الإجراءات الجزائية، فهي تدخل ضمن مبدأ عموم المساواة في الشريعة الإسلامية [12] ، وإن كان الظاهر أن الحصانة لا تحقق المساواة [13] ، مما يقتضي ضرورة بيان الفرق بين مجالي الأحكام والتنفيذ.

ففي مجال الأحكام الموضوعية، لم تفرق النصوص التشريعية المقررة للجرائم والعقوبات بين الناس، وعلى ذلك لا تعرف الشريعة الإسلامية حصانة في مواجهة الأحكام الجنائية أو في مجال الأحكام الإجرائية.

وينبني على اعتبار المساواة أصلا عاما من أصول النظام الاجتماعي الإسـلامي، ضرورة التزام ولي الأمر عدم التفرقة بين الناس بتقـرير حصانات أو محاكم خاصة أو امتيازات قضائية لبعض الأفراد [14] . وما قرره الفقهاء من مبدأ المساواة في أصل استحقاق العقاب، لم يمنع اختلافهم في مسألة تنفيذ القصاص أو الحدود.

فبينما ذهب الجمهور إلى وجوب إقامة القصاص أو الحد، حالة ارتكاب ما يوجبهما قرر الحنفية وجوب تنفيذ القصاص دون الحد [15] [ ص: 136 ] ، باعتبار أن الحدود من حقوق الله. وليس المقصود من حصانة القضاة هنا سوى قيد إجرائي مؤقت، وليست مانعا من موانع العقاب أو المسؤولية، وهذا المانع الإجرائي يقتضي تمتع القاضي بحصانة ضد الإجراءات.

وتقرير هذه الحصـانة إنمـا هو لصالح المجتمع، حفظا لكيان القضاء، وصيانة للقاضي من أي اعتداء، حتى لا تختل مواعيد المتخاصمين وتتراكم القضايا لدى القضاة بسبب عرقلة عملهم، لأن تأخير العدل ظلم، وحصانة القضـاة هنا مؤقتة بجـامع المصـلحة [16] ، وهي تزول برفع الحصـانة، فتقرر إذا أن الحصـانة لا تعدم المساواة، وإنما لا تعدو أن تكون إجراء حمائيا لمنصب القضاء.

روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب فقال:

( ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه، فقام عمرو بن العاص فقـال: يا أمير المؤمنـين، لئن أدب الرجل منا رجـلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قـال: كيف لا أقصـه منه، وقـد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه ) [17] .

وتقرير الحصانة في الشريعة الإسلامية يقوم على مراعاة الجانب العقدي، ويرتكز على الجـانب الأخـلاقي. فمحبة الله والخشيـة منه، [ ص: 137 ] تجعل صاحب أي ولاية يراع الله في كل تصرف يفعـله. وترتب الثـواب والعقاب في الأولـى والآخـرة يضبط تصرفـاته بالضوابط الشرعية. فالحصـانة التي تحميه من المساءلة أو الإجراءات الجزائية، لن تحميه من المساءلة أمام محكمة العدل الإلهية: ( يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم ) (الشعراء:88-89).

على أن حصانة القضاء لم تكن في الشريعة مطلقة، بل أجاز الفقهاء التشكي من القاضي والتظلم منه. وقيد ذلك بعدة قيود مثلت جوهر الحصانة بما يمنع عن القاضي الإجراءات التعسفية التي تستهدفه في عمله [18] .

وإن كان بعضهم يرى عدم جواز التشكي من القاضي. جاء في "النوادر والزيادات" ما نصه: "ولا يمكن الناس من خصومات قضاتـهم إذا اشتكوهم، هذا لوجهين، أحدهـما: أن يكون القـاضي من أهـل العفاف والرضـا فيستهان بهذا... والآخر: أن يكون القـاضي فاسقا فاجرا، وهو ألحن بحجته ممن شكاه، فيبطل حقه" [19] .

ومن الإجـراءات التي اتخذت إزاء توجه التهمة الجنـائية ضد القاضي ما ورد في "قضاة قرطبة". ذكر الخشني: أن قاضي مدينة ماردة اتهم بسرقة عشرة آلاف دينار، اعتمادا على مستند محرر من طرفه باستلام المبلغ، وعضد ذلك بستة عشر شاهدا. ولكن القاضي أنكر الواقعة وكذب [ ص: 138 ] الشهود. وبلغ الخبر الأمير، فشاور في أمره الفقهاء، فأشاروا بتحليف القاضي، إلا أن أحدهم عارض ذلك، وقال: إنه من العيب أن يبلغ الأمر ببني العباس أن يحلفوا قضاتهم، فوافق الأمير على ذلك وأوصى إلى القاضي أن يكتب إليه بيمينه في السر وبرأه الأمير مما نسب إليه [20] .

من هنا نتبين أهمية مبدأ الحصانة في حماية القاضي وصيانة منصب القضاء، ولولا ذلك، لتظاهرت الشكاية على القضـاة، ولكان في ذلك إفسـاد الناس على قضاتـهم وتوهين أمرهم. وفي هذا مفاسد عظيمة، فإقامة العـدل تقتضي أن يكون القاضـي قـويا مهابا. ومبدأ الحصـانة كما تقرر آنفا لا يعدم المساواة بقدر ما يصونها عن الامتهان.

وإن وجدنا في بعض الأحيان تجاوزات من الأمراء والخلفاء، لم يكن عزلهم لقضاتهم منقصة للقضاء، بقدر ما كان دليلا على قوة القضاة في الحق وضعف أهل الباطل [21] . [ ص: 139 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية