الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المطلب الثاني: بيان أصول الاستحقاق:

إن لتعيين أصول الاستحقاق بيانا لمقاطع الحق ورسما لحدود الحرية الفردية. وقد تقدم أن منشأ الحـق هو التشريع نفسه من واقع أحكامه نصا أو دلالة، المرتكز أسـاسا على الفطرة، قال الله تعالى: ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) (الروم:30) .

ومعنى هذا، أن مصادر التشريع هي مصادر الحقوق والحريات، وليس ذات الإنسان. وهذا ما قرره الشاطبي بقوله: "وأما حق العبد فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه، ومن جهة أنه كان لله ألا يجعل للعبد حقا أصلا" [1] .

ومعلوم أن الحقوق قد تتداخل أحيانا، وقد تتضارب أحيانا كثيرة، وهي في هذا وذاك لا تنفك عن التعايش جنبا لجنب. وبدهي أنه إذا استحال [ ص: 59 ] انفصال الحق الفردي عن الحق الجماعي، فمصلحة كل منهما لا تنفصل عن الأخرى. هذه المصلحة التي تدعو إلى بيان أصول الاستحقاق، وتمكين صاحب الحق من حقه، كلما اندفعت الأهواء وتغلبت الرغبات على النفوس.

وإذا كان أحد مقاصد التشريع تعيين أصول الاستحقاقات أو بمعنى آخر تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها ابتداء، فإن المقصد من القضاء بيانها والحكم بمقتضاها أو بما ترجح منها إذا تزاحمت الحقوق واستحال تشريك المستحقين في الحق الواحد ابتناء.

وذلك كأخذ المال بيد القوة ودفعه لمستحقه، وتخليص سائر الحقوق وتمكينها بأيدي مستحقيها، كتسليم الولد لحاضنته، وإرجاع المعتدة من طلاق رجعي لبيت سكناها، وإيقاع الطلاق على من يجوز له إيقاعه عليه ونحو ذلك.

وتصرفات القضاة في ذلك، إما عائدة إلى ما لهم من سلطة إحقاق الحق أو نيابة عن صاحب الحق، وذلك أن "الحاكم يتصرف فيما لزمه من التصرفات القابلة للنيابة مع غيبته أو امتناعـه على كره منهم إيصالا للحق إلى مستحقه ونفعا للممتنع ببراءته من الحق" [2] .

وينبني على هذا منع صاحب الحق من حقه إذا ثبت تعديه. ذكر التسولي في "البهجة": أنه ليس للأب أن يزوج ابنتـه من عبد لما يلحقـها في ذلك من المعـرة. وقـال سحنون: إذا أراد الأب أن يزوج ابنته مجنونا [ ص: 60 ] أو مجذوما أو أبرص أو أسود أو من ليس لها بكفء وأبت الابنة ذلك، كان للسلطان منعه لأن ذلك ضرر [3] .

وهكذا كل تصرف ثبت أن صاحب الحق متعد فيه، جاز للقاضي سلب هذا الحق منه للحاجة والمصلحة. فلا يكفي إذا تعيين أصول الاستحقاق لإثبات ما يجوز من التصـرفات، حتى نثبت بالتوازي للقضـاء ما به يرجح هذه الأصول عند تشابك المصالح، ويمكن كل ذي حق من حقه إذا ما رام بعض الأفراد اغتصابه.

وعلى هذا "استقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء" [4] .

وإذا كان حكم الحاكم في هذا المستوى يتجاوز الفصل في الخصومات وحسم مادة النـزاعات إلى بيان أصول الاستحقاقات وتمكين أهل الحقوق من حقوقهم، فيجب أن يقتصر فيه على ما يفي بهذا الغرض وإلا صار متعديا جائرا في الحكم [5] . [ ص: 61 ]

ويخرج من هذا ما كان عائدا لاختلاف أصول المذهب ومدارك الفقهاء وأنظار القضاة في المسائل الواقعة. وهذا كأن يدعي أبناء أخ الاستحقاق في وقف سبله واقفه على أولاده وأولادهم على أن الطبقة السفلى لا تشارك الطبقة العليا. ثم مات الواقف عن ولدين، مات بعده أحدهما عن أولاده وأخيه، فنازعهم العم في استحقاقهم بدعوى أن كل فرد من أفراد الطبقة العليا يحجب الطبقة السفلى عن الاستحقاق. فحكم القاضي المالكي باستحقاق أولاد الأخ مع العم وبأن الطبقة العليا إنما تحجب فرعها لا فرع غيرها. فالمعتبر حكما، هو استحقاق هؤلاء الأولاد مع عمهم. أما حكمه بأن الطبقـة العليا إنما تحجب فرعها لا فرع غيرها، فخارج عن الحكم، ولا يمنع حاكما يرى خلاف هذا المذهب أن يحكم فيما سيحدث في هذا الوقف من النـزاع بحرمان فرد من أهل الطبقة السفلى (من غير المحكوم لهم أولا) من الاستحقاق لوجود فرد من أهل الطبقة العليا [6] .

وقد أورد محمد العزيز جعيط في "الطريقة المرضية" في تصرفات الحكام التي ليست حكما ولغيرهم من الحكام تغييرها والنظر فيها، مسائل منها: تصرفات الحكام بتعاطي أسباب الاستخلاص ووصول الحقوق إلى مستحقيها من السجن والإطلاق، وأخذ الكفلاء الأملياء وأخذ الرهون لذوي الحقوق، وكذلك قبض المغصوب من الغاصب، وقبض أموال الغيب التي لا حافظ لها، وقبض أموال المجانين والمحجور عليهم بسفـه أو صـغر، [ ص: 62 ] وحفظ أموال الغيب والمحبوسين الذين لا يتمكنون من حفظ أموالهم، أن هذه التصرفات كيفما نقلت ليست حكما لازما، ولغير الأول من الحكام تغيير ذلك وإبطاله بالطرق الشرعية على ما تقتضيه المصلحة [7] .

وهذا من صحيـح النظر، لأن الحـكم إنما شرع لدرء الخصام، وهو لا يندفع إلا بالإلزام أو الإطلاق، كما سبق بيانه، وهو إذا وقع رفع الخلاف. وليست تصرفات القضاة التي سبق ذكرها من هذا الباب، بل هي زيادة على ما شرع ابتداء اقتضتها الضرورة والمصلحة.

والحاصل أن ضابط ما يفتقر إلى حكم الحاكم مع وجود سببه الشرعي على ما قاله القرافي في "الإحكام" في الجواب عن السؤال الثاني والثلاثين، هو ما وجد فيه أحد أسباب ثلاثة:

- الأول: أن يكون ذلك الأمر مما يحتاج إلى نظر وتحرير وبذل جهد في تحرير سببه ومقدار مسببه.

- الثاني: أن يكون مما لو فوض إلى جميع الناس لأدى إلى الفتن والشحناء وانخرام النظام.

- الثالث: أن يكون مما قوي فيه الخلاف، مع تعارض حقوق الله وحقوق الخلق [8] .

ويتفرع على هذه الضوابط جواز طلاق الحاكم للمرأة التي ثبت الإضرار بها وادعت ذلك. ولكن هل يوقع الطلاق الحاكم أو توقعه المرأة والحاكم يمضيه؟ [ ص: 63 ]

ذكر بعضهم أن المسألة فيها خلاف على ما تقرر في كتب الفقه.

وأما الطلاق بالجذام والجنون، فإنه يوقعه الحاكم إذا طلبته الزوجة. وذكر ابن سهل أنه ليس للسلطان أن يفوض إليها أمرها تطلق متى شاءت.

وأما الطلاق الذي لا خيار فيه للمرأة، فإنه يوقعه الحاكم، وهذا كزواجها بغير ولي، وتزويجها ممن ليس بكفء، ونكاحها للفاسق، ومن تزوجت مع وجود والدها ولم يستأذنه وليها الذي زوجها [9] .

ويتفرع على هذه القاعدة أيضا ما ذكره الشهاب القرافي في "الإحكام"، تفليس من أحاط الدين بماله والتطليق على الغائبين من المفقودين وغيرهم، ورد الودائع والغصوب [10] .

والحاصل مما تقدم أن اختصـاص الشريعة بتعيين أصـول الاستحقاق لا يلزم عنه إحقاق الحق، وإن كان ذلك ضرورة في سلم العدل. ويبقى افتقاره للقضاء من الأهمية بمكان في بيان أصول الاستحقاق، وتمكين صاحب الحق من حقه.

وهذا الأمر وإن كان خارجا عن حقيقة القضاء، إلا أن ضرورة إقامة العدل ومصلحة تمكين الاستحقاقات تقتضي مثل هذه التصرفات، وهي مندرجة ضمن ولاية القضاء عموما. [ ص: 64 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية