الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الأول

حصانة القاضي

المطلب الأول: عزل القاضي:

تكلم الفقهاء عن مدى قابلية القاضي للعزل، واختلفت أنظارهم في ذلك، بناء على اعتباره كوكيل عن الأمير من جهة [1] ، وعلى وجوب حرمة هذا المنصب في نظر الناس من جهة ثانية [2] .

فذهب بعضهم إلى أن للإمام عزل القاضي مطلقا، وهو قول الحنفية وبعض المالكية وبعض الحنابلة [3] .

واستدل أصحاب هذا الرأي بعدة أدلة منها:

- أن عمـر بن الخطاب رضي الله عنه عزل أبا مريـم [4] حيث قال: "لأعزلن أبا مريم، وأولـين رجلا إذا رآه الفاجر فرقه" [5] ، فعزله عن قضاء البصرة، وولى كعب بن سوار مكانه [6] . [ ص: 123 ]

- توليـة علي رضي الله عنه أبا الأسود الدؤلي [7] ثم عزله، فقال له: لم عزلتني وما خنت وما جنيت؟ قال: رأيتك يعلو كلامك على الخصمين [8] .

وذكر الكـاساني أن عزل الإمام للقاضي ليس بعزله له حقيقة، بل بعزل العامة لما ذكر من أن توليته بتولية العامة، والعامة ولوه الاستبدال دلالة لتعلق مصلحتهم بذلك، فكانت ولايته منهم معنى في العزل أيضا [9] .

وذهب آخرون إلى أن عزل القاضي لا يكون إلا لسبب، وهو قول جمهور المالكية والشافعية والحنابلة [10] .

واستدلوا بأن ولاية القاضي تصيره نائبا عن المسلمين، وليس نائبا عن الإمام، وبالتالي فما دام القاضي مقيما ومستجمعا لشروط أهلية القضاء، فليس من المصلحة عزله، ويأثم ولي الأمر إذا عزله، لأن في ذلك إفسادا لقضايا الناس، وهو عبث من الإمام، وتصرفه مصان عنه [11] . [ ص: 124 ]

وذهب بعض الحنابلة إلى أنه ليس لولي الأمر عزل القاضي مطلقا؛ لأن عقده كان لمصلحة المسلمين، فلا يملك الإمام عزله [12] .

ونقل عن أبي يعلى [13] قوله: إن الإمام ليس له عزل القاضي ما كان مقيما على الشرائـط، لأنه بالولاية يصير ناظرا للمسلمين على سبيل المصلحة لا عن الإمام. ويفارق الموكل، فإن له عزل وكيله لأنه ينظر في حق موكله خاصة [14] .

مما سبق بيانه أخلص إلى القول: إن عزل القاضي ينبغي أن يكون في مظنة المصلحة وكذلك استقالته [15] .

فإذا استجمع القـاضي شروط أهلية القضاء ولم توجد مصلحـة لعزله لم ينعزل عند جمهور العلماء. فإن عزله الإمام أثم، لأن تصرفه على الرعية منوط بالمصلحة، كما بينه القرافي

[16] . [ ص: 125 ]

قال محمـد الطاهر ابن عاشـور: "والحاصل أنه يفهم من مقصد الشريعـة أن تكون الولايـة في مظنـة المصلحـة، وأن لا يكون العزل إلا لمظنة المفسدة" [17] .

وتظهر أهمية هـذا المبدأ في توفـير الحماية اللازمـة للقضاة، وإلزام الجهة القائمة بالعزل بقيود وضوابط. إضافة إلى أن الحاجة العملية للأخذ بهذا تظـهر قيمتها في الوقت الحـاضر، وذلك لزيادة نفـوذ السـلطة التنفيـذية على القضاء.

هذا التنوع يدل على أهمية المسألة وخطورتها، وارتكاز العزل على المصلحة يقتضي أن تكون المصلحة قطعية أو قريبة منها، ولا يكفي أن تكون ظنية أو وهمية.

ذهب الماوردي إلى عدم جـواز عزل المولي للقـاضي إلا بعذر، وأن لا يعتزل المولى إلا من عذر لما في هذه الولاية من حقوق المسلمين [18] .

ومن المصالح الموجبة للعزل، كون غيره أقوى منه أو أحكم، أو لتسكين فتنة، أو لحصول الريبة في أمر القاضي [19] . [ ص: 126 ]

من ذلك أن الأمـير علي بن يوسـف بن تاشفـين عزل أبا الحسن ابن أضحى الغرناطي عن قضاء المرية [20] ، لجهله بالأحكام [21] .

ذكر ابن عبد السلام في "قواعده" وجوب تقيد العزل بالأصلح للمسلمين فالأصلح. وفرع على هذا أن للإمام عزل القاضي إذا رابه منه شيء لما في إبقاء المريب من المفسدة.

وأما إن انتفت الريبة فله أحوال:

إما أن يعزله بمن هو دونه، وهذا لا يجوز لما في عزله من تفويت المصلحة على المسلمين من جهة فضله على غيره.

وأما إن عزله بمـن هو أفضل منه فينفذ عزله تقديما للأصلح على الصالح، لما فيه من تحصيل المصلحة الراجحة للمسلمين.

وأما إن عزله بمن يساويه، فقد وقع فيه خلاف لتردده بين جواز التخير عند تساوي المصـالح، وعدم الجواز لما فيه من كسر العزل وعاره، والذي رجحه المنع، لأن حفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود، ودفع الضرر أولى من جلب النفع [22] . [ ص: 127 ]

وذهب القـرافي إلى أنه يجب عليه عـزل الحـاكم إذا ارتاب فيه، دفعا لمفسـدة الريبة، وبعزل المرجـوح عند وجـود الـراجـح تحيلا لمزيد المصلحة.

واختلف في عزل أحد المتساويين بالآخر. فقيل: يمتنع لأنه ليس أصلح. وقيل: لأنه يؤذي المعزول بالعزل، ولأن ترك الفساد أولى من تحصيل الصلاح للمتولي [23] .

قال ابن عرفة: في عدم عزله نظر لأنه يؤدي إلى لغو تولية غيره، فيؤدي إلى تعطيل أحكام المسلمين [24] .

وأمـا إن عـزله لمصلحـة كون غيره أعلم منه بالأحكام، فقد أوجب بعضهـم على الأمـير أن يبـرئه مما يشينـه، لأن العزل مظنة لتطرق الكلام إليه [25] .

وأما العزل بالشكية، فهو محل خلاف عند المالكية. فأصبغ يرى ضرورة عزل الإمام للقاضي إذا خشي عليه الضعف والوهن أو بطانة السوء، وإن أمن عليه الجور في نفسه، لأنه من بذل النصح للمسلمين، وهو واجب على الإمام. بينما اشـترط مطرف لعزل القـاضي عدم الشـهرة بالعدالة، [ ص: 128 ] وتظاهر الشكية ووجـود البديل، نفيـا لمفاسـد العزل، ويسأل عن حاله سرا فمن لم تتحقق عدالته عزل

[26] .

ويترتب على هذا أن حصانة القاضي منوطة باستمرار صلاحيته لأعمال القضاء ودوام أهليته، فإذا تغيرت حاله بما يعود على صلاحيته بالإخلال والضياع، وعلى أهليته لهذه الولاية بالفناء، أو صدر منه ما يتنافى وطبيعة عمله، أو اتصف بما ينافي أهلية القضاء، زالت أهليته وتعين على من بيده الأمر أن يعزله لما في بقائه من إسناد الأمر إلى غير أهله [27] .

إضافة إلى ما تقدم، فقد ذهب بعضهم إلى أن في عزل القضاة توهينا لحرمة المنصب [28] . وليس من غرض الشريعة فعل ذلك، لأن في توهين المناصب اجتراء العامة على صاحب الولاية، وفيه توهين للأمة واختلال نظامها، ومن مقاصـد الشريعـة حفظ نظام الأمة، وإن حفظ حرمة المناصب الشـرعية وإعانة القائمين بها على المضي في سبيلهم غير وجلين ولا مفضوضين لمن أكبر المصالح [29] . [ ص: 129 ]

ولهذا نعى ابن عاشور على سلاطين الدولة الحفصية اصطلاحهم على عدم تولية القضاة أكثر من ثلاث سنوات واعتبره من خطأ التصرف



[30] .

وأما في الأنظمة المعاصرة، فقد نص فقهاء القانون الدستوري، على أن عدم قابلية القضاة للعزل يعتبر من أهم الضمانات القانونية التي تكفل للقضاء استقلاله، وتقوي صرحه وتحمي القضاة من تدخل الدولة، كما تحميهم من عبث المتقاضين واعتداء الأفراد.

وليس معنـى عـدم قابليـة القضـاة للعـزل، أن يبقـى القضاة في مراكزهم ولو صـدر منهم ما يستوجب مسـؤوليتهم ويقتضي عزلهم، إذ لا نزاع في أنه مهما احتـاطت السـلطة التنفيذية في اختيار القضاة، فإنه سيكون من بينهم من تنقصه الكفاءة أو النـزاهة، وقـد يصـادف أن يقع من بعضهم تصرفـات أو أعمال تتناقض ومنصب القضاء وهؤلاء ينبغي عزلهم [31] . [ ص: 130 ]

وبهذا فلا يكون عزل القضاة أو نقلهم إلا وفق مبادئ حددتها النظم القضائية، وعن طريق المجلس الأعلى للقضاء، مما يوفر استقرارا لهذا المنصب، ويبعث الاطمئنان في نفوس القضاة أنهم لا يعزلون أو ينقلون نقلا تعسفيا في غير المواد التي حددها القانون.

والذي ينبغي أن نخلص إليه أن نظام الحصانة القضائية، وإن كان من أهم المبادئ التي تحفظ حرمة القضاء، ولا توهن القاضي في دينه، ويوجد ضمانة كافية يطمئن إليها القضاة على مصيرهم، إلا أنه وبالدرجة الأولى يوجد الضمانة اللازمة للمتقاضين بحيث تتوطد ثقتهم بالقضاء وتفصل في قضاياهم بالعدل والإنصاف بعيدا عن أي تأثير خارجي.

التالي السابق


الخدمات العلمية