الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الأول

أصول الاستحقاق

المطلب الأول: تعيين أصول الاستحقاق:

قضت أصول الشريعة إباحة ما في الأرض إجمالا لعموم الناس على وجه الاشتراك. دل على هذا قول الله تعالى: ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) (البقرة:29).

ولكن هذا الإجمال لما كان لا يتناسب مع فطرة الناس في حب التملك، احتاج إلى بيان وتفصيل "فلو أن ما في الأرض يفي برغبات كل الناس في كل الأحوال وكل الأزمان، لما كان الناس بحاجة إلى تعيين حقوق انتفاعهم بما في عالمهم الأرضي" [1] .

ولهذا كان تعيين أصول الاستحقاق رافعا لأسباب التواثب والتغالب ابتداء، ولولا ذلك لأفنـى الناس بعضهم البعض. فدل هذا على أن هذا المقصد أصل مهم في تحقيق مقصد حفظ نظام الأمة ودوام بقائها واستمرار النوع البشري.

كما قضت أصول الشريعة في تعيين أصحاب الحقوق بيان درجات الاستحقاق، وهي لها مزيد تعلق بأسباب الاختصاص. ولعل "السبب [ ص: 54 ] الأصيل لامتلاك الحقوق هو الاختصـاص، وأعلاه مـا كـان بمقتضى الفطرة، أي الطبع والجبلة بأن الشيء للشيء ككون الجلد للجسد، فشهادة الفطرة هي الأصل في تخصيص الحق بمستحقه" [2] .

وإليها يرجع حق الشخص في التصرف في أجزاء ذاته، على أن لا يخرج في تصرفه عن ضوابط الشرع، فلا يجوز للمرء قتل نفسه أو استباحة عرضه، فإطلاق التصرف هنا مقيد بالإذن الشرعي.

وإليها يرجع حق الأم في ولدها، لأنه جزء منها وتكون فيها، "ويلتحق بهذه المرتبة الحق في كل ما تولد من شيء ثبت فيه حق معتبر، مثل نسل الأنعام المملوكة لأصحابها وثمر الشجر" [3] .

وتتفرع على سبب الفطرة بقية أسباب امتلاك الحقوق، ومنها حق الأب في ولده لاختصاصه به، لأن اختصاص المرأة بالرجل اقتضى اعتبـار الحمل العالق بها في مدة ذلك الاختصاص حملا من ذلك الزوج لقوله صلى الله عليه وسلم : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) [4] .

فجعل الفراش قرينة لإثبات النسب، ولم يجعل حق نفيه إلا لصاحب الفراش إن ثبت عنده قطعا أن الحمل ليس منه. [ ص: 55 ]

ودون هذا استواء الاستحقاق في تحصيل الحق، إلا أن بعض المستوين قد ابتدر لتحصيل الشيء قبل غيره، وهذا الحوز لا يخلو من أن يكون بسبب جهده، والجهد خاص بصاحبه فوجب أن يكون أثر الجهد خاصا بصاحب الجهد، وذلك كالاحتطاب والصيد والقنص، أو يكون بسبب سبقه إليه بالسعي مثل الاختصاص باللقطة بعد تعريفها، أو بما يخرج من معدن غير مملوك، وهو مال الركاز [5] ، دل على هـذا قـول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له ) [6] .

ودون هذه المراتب مراتب منها: "أن يكون المستحق قد نال الحق بطريق ترجيحه على متعدد من المستحقين في مراتب أخرى لتعذر تمكين الجميع من الانتفاع بالشيء المستحق" [7] ، وذلك كجعل حضانة الأولاد في الصغر للأم لكمال شفقتها وصبرها على أخلاق الصغار، وفي اليفع للأب ترجيحا لتدبيره.

ومنها نوال الحق ببذل عوض في مقابلته، وهذه المرتبة هي أوسع المراتب وأشهرها في تحصيل الحقوق. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمولاه هنيء حين جعله على الحمى: "وايم الله، إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها [ ص: 56 ] لبلادهم، فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال (أي الإبل) الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا" [8] .

ومن هذه المراتب "أن ينال الحق بعد انقراض مستحقه أقرب الناس إليه وأولاه بأخذ حقوقه. وللعوائد والشرائع أنظار متفاوتة في تعيين صفة القرب. والإسلام أعدل الشرائع في ذلك حين رسم حقوق الإرث وبناها على اعتبار القرابة الأصيلة والعارضة بقطع النظر عن المحبة وضدها" [9] ، لقوله تعالى: ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ) (النساء:11).

وعلى فرض أن الإسلام أبقى تعين الاستحقاق على أصل الفطرة، مع ما يطرأ عليها من انحراف بحسب الأحوال والمتغيرات لما تعين لأحد حق. فالذي يورث الذكر دون الأنثى، والذي يورث الرجل دون الصبي، والذي يسوي بين الذكر والأنثى، بل ولعله يأتي علينا زمان تورث فيه النساء دون الرجال أو يرث فيه الحيوان دون الإنسان، وهذا مشاهد في واقع الحال.

فكان الشرع في هذا المستوى أصلا مهما يعضد الفطرة في تعيين الاستحقاقات وبيان أسباب الاختصاص، ومانعا من الجور في الأحكام، [ ص: 57 ] ورافعا لأسباب الخصـومات، ورادعا عن تجاوز الأفراد والجماعات حدود ما شرع لهم من استحقاقات.

على أن صاحب الحق كما يكون واحدا، قد يكون متعددا محصورا، كما في الشركاء. وقد يكون متعددا غير محصور، كما في الحقوق العامة للمسلمين. يقول ابن عاشور: وأسباب الاختصاص إن انفرد بها أحد كان حقيقا بالاختصاص بما انفرد به لأجلها. وإن كان السبب مشتركا بين متعدد، كان ذلك المتعدد مشتركا في استحقاق المسبب على حسب تقدير اشتراكه في السبب. ثم إن لم يكن شيء من أسباب الاختصاص كان الحق مشتركا بين عموم الأفراد [10] .

وقد تلجأ الشريعة إلى سلب بعض الأفراد بعض حقوقهم إذا تبين أنه غير أهل له. وقد ينشأ هذا السلب عن بعض الصفات الخلقية المانعة من نوال بعض الحقوق.

وقد يكون سلب الحق لأجل ترجيح جانب من المستحقين إياه على جانب آخر كتقديم المرأة على الرجل في حضانة الأولاد.

وضابط السلب في كل هذا هو الضرورة والمصلحة "فلا ينتزع الحق من مستحقه إلا لضرورة تقيم مصلحة عامة كأخذ أرض للحمى أو لنـزول جيش يدفع عن الأمة" [11] . وذلك لأن انتفاع صاحب الحق بحقه من أكبر [ ص: 58 ] مقاصد الشرع، وتصرفه فيه بمختلف وجوه التصرف التي تحفظه، من الحقوق التي كفلتها الشريعة، فلا يصار إلى العكس إلا إذا ترجح جانب المصلحة فيه.

والحاصل أن تعيين أصول الاستحقاق، هو أساس العدل وإحقاق الحق، ليكون الناس على بصيرة من أمرهم فيما يأتون من أعمال وتصرفات. وكان تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها وتبيين مراتبها وتمييز متشابهها من أكثر مقاصد التشريع بيانا لأهمية ما يترتب عليها من أحكام.

التالي السابق


الخدمات العلمية