الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله تعالى : وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم أي حب العجل فحذف الحب وقوله عز وجل إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات أي : ضعف عذاب الأحياء ، وضعف عذاب الموتى فحذف العذاب وأبدل الأحياء والموتى بذكر الحياة والموت وكل ذلك جائز في فصيح اللغة .

وقوله ، تعالى واسأل : القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها أي أهل العير فالأهل فيهما محذوف مضمر وقوله عز وجل : ثقلت في السماوات والأرض معناه خفيت على أهل السموات والأرض والشيء إذا ، خفي ثقل فأبدل اللفظ به وأقيم في مقام على وأضمر الأهل وحذف .

وقوله تعالى : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون أي شكر رزقكم وقوله عز وجل : وآتنا ما وعدتنا على رسلك أي على ألسنة رسلك فحذف ألسنة

التالي السابق


(و) من المختصر المحذوف المبدل (قوله تعالى: وأشربوا في قلوبهم العجل أي حب العجل فحذف) المضاف، وأبدل المضاف إليه مكانه، (و) من أمثلة حذف المضاف أيضا والمبدل والمضمر، ( قوله تعالى إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات أي: ضعف عذاب الأحياء، وضعف عذاب الموتى فحذف العذاب) أي: أضمر ذكره ، (وأبدل الأحياء والموتى بذكر الحياة والموت) ، فأقام الوصف مقام الاسم، ويصلح أيضا أن يترك الوصف على لفظه، ويضمر أهل فيكون المعنى ضعف عذاب أهل الحياة، وضعف عذاب أهل الممات، (وكل ذلك جائز في فصيح اللغة، و) من المحذوف المضمر أيضا، (قوله تعالى: واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها أي) اسأل (أهل القرية وأهل العير فالأهل فيهما محذوف مضمر) ، واختلف في الحذف، هل هو من المجاز؟ فقيل: نعم، وهذا هو المشهور، وأنكره قوم، وقالوا; لأن المجاز استعمال اللفظ في غير موضوعه، والحذف ليس كذلك، وقال ابن عطية: حذف المضاف هو عين المجاز ومعظمه، وليس كل حذف مجازا.

وذكر القرافي: للحذف أربعة أقسام: الأول: منها ما يتوقف عليه صحة اللفظ ومعناه، من حيث الإسناد نحو واسأل القرية أي: أهلها، إذ لا يصح إسناد السؤال إليها وذكر بقية الأقسام، ثم قال: وليس في هذه الأقسام مجاز إلا الأول، وقال القزويني في الإيضاح: متى تغير إعراب الكلمة بحذف أو زيادة فهي مجاز نحو واسأل القرية ليس كمثله شيء، فإن كان الحذف، أو الزيادة لا يوجب تغير الإعراب نحو: أو كصيب فبما رحمة فلا توصف الكلمة بالمجاز اهـ .

ومن أمثلة المختصر المحذوف قوله تعالى: وهي خاوية على عروشها المعنى خاوية من ثمرها، أو أهلها واقعة على عروشها، ومن أمثلة حذف المضاف، قوله تعالى: الحج أشهر معلومات أي حج أشهر، أو أشهر الحج، وكذا قوله حرمت عليكم أمهاتكم أي نكاح أمهاتكم، وقوله وفي الرقاب أي تحرير الرقاب، وكذا قوله ولكن البر من آمن بالله فحذف الفعل، وأقيم الاسم مقامه، فالمعنى ولكن البر بر من آمن بالله، وقد يكون من البدل فيكون المحذوف هو الاسم أبدل الفعل مكانه فلما كان البر وصفه أقيم مكانه، (و) من المبدل المضمر، (قوله تعالى: ثقلت في السماوات والأرض ) لا تأتيكم إلا بغتة (معناه خفيت على أهل السماوات، و) أهل (الأرض) فمبدله ثقلت أي: خفيت، (فالشيء) الفاء تعليلية، أي: لأن الشيء (إذا خفي) علمه (ثقل فأبدل اللفظ به) بدلالة المعنى المذكور عليه، (و) كذلك قوله في السماوات والأرض معناه على هذا هو المضمر، (أقيمت) في [ ص: 545 ] (مقام على وأضمر الأهل وحذف) أي: أهل السماوات، وأهل الأرض، (و) من أمثلة المحذوف المضمر، (قوله تعالى: وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون أي شكر رزقكم) ، فحذف المضاف، وكذلك قوله تعالى: بدلوا نعمت الله كفرا أي شكر نعمة الله كفرا بها، والصحيح أن في الآية الأولى حذف ثلاث مضافات، والمعنى: بدل شكركم رزقكم، وهو من القسم الثالث من أقسام الاختزال الذي حذف فيها أكثر من كلمة، ونحو ذلك قوله فكان قاب قوسين أو أدنى المعنى فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب فحذف ثلاثة من اسم كان وواحد من خبرها، (و) من المحذوف المضمر، (قوله تعالى: وآتنا ما وعدتنا على رسلك أي على ألسنة رسلك فحذف الألسنة) ، وقوله على ملك سليمان أي على عهد ملك سليمان، فأضمر قوله عهد، وهذه الآيات التي أوردها المصنف من الأول إلى هنا كلها أمثلة، لإيجاز الحذف بأقسامه على طريق الإجمال، ولا بأس أن نذكر فوائد تتعلق بهذا البحث .

فمن ذلك ذكر أسباب الحذف، منها مجرد الاختصار والاحتراز عن العبث لظهوره، ومنها التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف، وأن الاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت المهم، وهذه هي فائدة التحذير والإغراء، ومنها التفخيم والإعظام لما فيه من الإبهام، ومنها التخفيف لكثرة دورانه في الكلام، كما في حذف حرف النداء نحو يوسف أعرض، ونون لم يك وياء والليل إذا يسر، ومنها شهرته حتى يكون ذكره، وعدمه سواء، قال الزمخشري وهو نوع من دلالة الحال التي لسانها انطلق من لسان المقال، ومنها صيانته عن ذكره تشريفا كقوله قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض الآيات حذف فيها المبتدأ في ثلاثة مواضع، ومنها صيانة اللسان عنه، تحقيرا عنه، نحو صم بكم، أي: هم ، ومنها قصد العموم نحو وإياك نستعين أي على العبادة، وعلى الأمور كلها، ومنها رعاية الفاصلة نحو ما ودعك ربك وما قلى وله أسباب أخر غير ما ذكرنا تستفاد من محالها، ومن ذلك ذكر شروط الحذف، وهي سبعة:

أحدها: وجود دليل إما حالي نحو قالوا سلاما أي سلمنا سلاما، أو مقالي نحو ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا أي أنزل خيرا، ومن الأدلة العقل حيث يستحيل صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف، ثم تارة يدل على أصل الحذف من غير دلالة على تعيينه، بل يستفاد التعيين من دليل آخر، نحو حرمت عليكم الميتة فإن العقل يدل على أنها ليست المحرمة; لأن التحريم لا يضاف إلى الأجرام، وإنما هو والحل يضافان إلى الأفعال فعلم بالعقل حذف شيء، وأما تعيينه، وهو التناول فمستفاد من الشرع، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: إنما حرم أكلها لأن العقل لا يدرك محل الحل والحرمة، وأما قول صاحب التلخيص أنه من باب دلالة العقل أيضا، فتابع فيه السكاكي من غير تأمل أنه مبني على أصول المعتزلة، وتارة العقل أيضا على التعيين نحو وجاء ربك أي أمره بمعنى عذابه إذ العقل دال على استحالة مجيء الباري; لأنه من سمات الحادث; وعلى أن الجائي أمره، وتارة يدل على التعيين العادة نحو فذلكن الذي لمتنني فيه دل العقل على الحذف، لأن يوسف لا يصح ظرفا للوم، ثم يحتمل أن يقدر لمتنني في حبه لقوله قد شغفها حبا وفي مراودته لقوله تراود فتاها والعادة دلت على الثاني; لأن الحب المفرط لا يلام صاحبه عليه، وتارة يدل عليه التصريح في مواضع أخر، وهو أقواها نحو وجنة عرضها السماوات والأرض أي كعرض بدليل التصريح به في آية الحديد، ومن الأدلة على أصل الحذف العادة بأن يكون العقل غير مانع من إجراء اللفظ على ظاهره من غير حذف، نحو لو نعلم قتالا لاتبعناكم أي: مكان قتال، والمراد مكانا صالحا للقتال، وإنما كان كذلك لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال، ويعيرون بأن يتنوهوا بأنهم لا يعرفون فالعادة تمنع أن يريدوا لو نعلم حقيقة القتال، فلذلك قدره مجاهد مكان قتال، ومنها الشروع في الفعل نحو بسم الله فيقدر ما جعلت التسمية مبدأ له فإن كانت عند الشروع في القراءة قدرت أقرأ ، والأكل قدرت آكل .

وعلى هذا أهل البيان قاطبة خلافا لقول النحاة أنه يقدر ابتدأت، أو ابتدائي كائن باسم الله، ويدل على صحة الأول التصريح به في قوله وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها وفي حديث باسمك ربي وضعت جنبي، ومنها الصناعة النحوية فقد توجب [ ص: 546 ] التقدير، وإن كان المعنى غير متوقف عليه كقولهم في" لا إله إلا الله" إن الخبر محذوف، أي: موجود، وقد أنكره الفخر الرازي، وقال: هذا كلام لا يحتاج إلى تقدير، وتقدير النجاة فاسد، لأن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة، فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلا على سلب الماهية مع القيد، وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر، ورد بأن تقدير موجود يستلزم نفي كل إله غير الله قطعا فإن العدم لا كلام فيه فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة، ثم لا بد من تقدير خبر لاستحالة مبتدإ بلا خبر ظاهر، ومقدر، وإنما يقدر النحوي لأجل أن يعطي القواعد حقها، وإن كان المعنى مفهوما .

والشرط الثاني: أن لا يكون المحذوف كالجزء، ومن ثم لم يحذف الفاعل، ولا نائبه، ولا اسم كان وأخواتها .

الثالث: أن لا يكون مؤكدا لأن الحذف مناف للتأكيد، إذ الحذف مبني على الاختصار، والتأكيد مبني على الطول .

الرابع: أن لا يؤدي حذفه إلى اختصار المختصر، ومن ثم لم يحذف اسم الفعل; لأنه اختصار للفعل .

الخامس: أن لا يكون عاملا ضعيفا، فلا يحذف الجار والناصب للفعل والجارة إلا في مواضع قويت فيها الدلالة، وكثر فيها استعمال تلك العوامل .

السادس: أن لا يكون عوضا عن شيء، ولذا لم يحذفوا التاء من إقامة واستقامة، وأما وإقام الصلاة فلا يقاس عليه، ولا خبر كان لأنه عوض، أو كالعوض، عن مصدرها .

السابع: أن لا يؤدي حذفه إلى تهيئة العامل القوي، ومن ثم لم يقس على قراءة وكلا وعد الله الحسنى



(فائدة) .

اعتبر الأخفش في الحذف التدريج حيث أمكن، الحذف ولهذا قال في قوله واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا أن الأصل لا تجزي فيه بحذف حرف الجر فصار تجزيه، ثم حذف الضمير فصار تجزي، وهذه ملاطفة في الصناعة، ومذهب سيبويه أنهما حذفا معا، قال ابن جني: وقول الأخفش أوفق في النفس، وآنس من أن يحذف الحرفان معا في وقت واحد



(مهمة) .

قال الشيخ عز الدين: ولا يقدر من الحروف إلا أشدها موافقة للغرض، وأفصحها; لأن العرب لا يقدرون إلا ما لو لفظوا به لكان أحسن وأنسب لذلك الكلام كما يفعلون ذلك في الملفوظ به نحو جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس، قدر أبو علي جعل الله نصب الكعبة، وقدر غيره حرمة الكعبة، وهو أولى; لأن تقدير الحرمة في الهدي، والقلائد، والشهر الحرام لا شك في فصاحته، وتقدير النصب فيها بعيد من الفصاحة، قال: ومهما تردد المحذوف بين الحسن والأحسن وجب تقدير الأحسن; لأن الله تعالى وصف كتابه بأنه أحسن الحديث، فليكن محذوفه أحسن المحذوفات، كما أن ملفوظه أحسن الملفوظات .




الخدمات العلمية