الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإن قيل: إن وجود الواحد منها يستلزم وجود الواجب، فتقدير [ ص: 205 ] اثنين أولى أن يستلزم وجود الصانع، ولو أمكن وجود ما لا يتناهى من العلل الممكنة كان ذلك أعظم في امتناعها، فكيف بما يتناهى، كما يقدر من يقدر أن العقل الأول أبدع الثاني، والثاني أبدع الثالث، وفلكه إلى العاشر المبدع لما تحت الفلك، وإذا قدر ما لا يتناهى كان الاستلزام أعظم.

فتبين أنه كلما كثرت الممكنات وتسلسلت، كان ذلك أعظم في دلالتها على ثبوت الواجب واستلزامها له، والإنسان قد يتوهم إذا فرض علل هي معلولات لا تتناهى، وتوهم أن العلة تكون وحدها مؤثرة في المعلول أو مقتضية له أو موجبة فهذا ممتنع، فإن العلة إذا كانت معلولة لزم أنها لا تقوم بنفسها بل تفتقر إلى غيرها، فالمعلول المفتقر إليها مفتقر إلى علة علتها التي هي مفتقرة إليه، فيكون معلولها كما أنه مفتقر إليها فهو مفتقر إلى كل ما هي مفتقرة إليه، فإذا قدر من ذلك ما لا يتناهى قدر أنه محتاج إلى أمور لا تتناهى، وليس فيها ما هو موجود بنفسه، ولا غني عن غيره. [ ص: 206 ]

ومن المعلوم أنه كلما كثرت الأمور المشروطة في وجود الموجود كان وجوده موقوفا عليها كلها، وكان أبعد عن الوجود من الموجود الذي لا يتوقف وجوده إلا على بعض تلك الأمور، فإذا كان الممكن لا يوجد بعلة واحدة ممكنة، بل يمتنع وجوده بها، فإذا كثرت العلل الممكنة التي يتوقف وجوده عليها، كان وجوده أعظم في الامتناع، وأبعد عن الجواز، وإذا كانت الممكنات قد وجدت فقد وجد قطعا مقتض لها مستغن عن غيره، وكلما تدبر المتدبر هذه المعاني ازداد لها تبينا، وعلم أن كل ما يقدر وجوده من الممكنات فإنه دال على الواجب الغني بنفسه عن كل ممكن مباين له.

ومن العجب أن هؤلاء يذكرون في إثبات واجب الوجود من الشبهات ما يذكرون، وإن كانوا يجيبون عنها. ثم إذا أخذوا وجوده إما مبرهنا وإما مسلما، وصفوه من الصفات السلبية بأمور لم يدل عليها ما دل على وجوده، بل يصفونه بما يمتنع معه وجوده، حتى يعلم أن ما وصفوا به واجب الوجود لا يكون إلا ممتنع الوجود، كما قد بسط في غير هذا الموضع، ولا يذكرون من القوادح المعارضة لتلك السلوب بعض ما يذكرونه في إثبات وجوده وإن توهموا بطلانها، مع أن تلك المعارضات [ ص: 207 ] هي صحيحة قادحة فيما ينفى صفاته، بل الشيطان يلقي إليهم من الشبهات القادحة في الحق ما لو حصل لهم نظير من الأمور القادحة في الباطل لما اعتقدوه.

فهذا كله إذا أريد بالجملة الاجتماع المغاير لكل واحد واحد، وإن أريد بها كل واحد واحد كان الأمر أظهر وأبين، فإن كل واحد واحد ممكن مفتقر إلى الفاعل، فإذا لم يكن هناك جملة غير الآحاد امتنع أن يكون هناك غير الآحاد الممكنة مما يوصف بوجوب أو إمكان.

التالي السابق


الخدمات العلمية