الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قيل: فالممكنات التي هي محدثة هي واجبة بغيرها، إذا وجدت تجب بوجوب سببها. فما شاء الله كان ووجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده. وهي ممتنعة حال عدمها. ومع هذا فهي تقبل الوجود والعدم، ولا يلزم من عدمها عدم الواجب.

قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن تلك كانت معدومة تارة وموجودة أخرى، فثبت قبولها للوجود والعدم، فلا يمكن أن يقال: إنها لا تقبل [ ص: 253 ] العدم بخلاف ما هو لم يعدم قط، ولم يكن عدمه في وقت من الأوقات.

الثاني: أن هذه لا يوجبها نفس الواجب إذ لو كان كذلك لكانت لازمة لذاته قديمة أزلية، بل إنما توجبها الذات مع ما يحدث من الشروط التي بها تم حصول المقتضي التام، فحينئذ ليست من لوازم الواجب بنفسه بل من لوازم مؤثرها التام، ومن جملة ذلك الأمور الحادثة التي هي شرط في حدوثها، وإذا عدمت فأنها تعدم لانتفاء بعض هذه الشروط الحادثة، أو لحدوث مانع ضاد وجودها، ومنع تمام علتها التامة فعدمت لعدم بعض الحوادث أو وجود بعض الحوادث، كما وجدت لحدوث بعض الحوادث. [ ص: 254 ] وقدم بعضها أيضا. فلهذا لم تكن من لوازم ذاته المجردة في الأزل. بخلاف ما كان من لوازم ذاته في الأزل. فإن هذا لازم ذاته يمتنع تحقق ذاته في الأزل بدونها، فمتى قدر عدمه لزم عدم الذات الأزلية الواجبة الوجود. وعدمها ممتنع، فعدم لازمها الأزلي ممتنع، فلا يكون لازمه الأزلي ممكنا ألبتة، بل لا يكون إلا واجبا قديما أزليا لا تقبل ذاته العدم. وهذا هو المطلوب. فقد تبين أن ما كان أزليا فإنه واجب الوجود يمتنع عدمه لا يكون ممكنا ألبتة، وهذا مما اتفق عليه العقلاء أولوهم وآخروهم. حتى أرسطو وجميع أتباعه الفلاسفة إلى الفارابي وغيره، وكذلك ابن سينا وأتباعه.

لكن هؤلاء تناقضوا فوافقوا سلفهم والجمهور في موضع، وخالفوا العقلاء قاطبة مع مخالفتهم لأنفسهم في هذا الموضع.

حيث قضوا بوجود موجود ممكن يقبل الوجود والعدم مع كونه قديما أزليا واجبا، وإن قيل: هو واجب بغيره. [ ص: 255 ]

ولهذا لا يوجد هذا القول عن أحد من العقلاء قبل هؤلاء، ولا نقله أهل المقالات عن أحد من الطوائف. وإنما يوجد في كلام هؤلاء وأتباعهم، وإذا عرف هذا فإن قال هؤلاء: نحن نريد به العدم الاستقبالي –أي: يقبل أن يعدم في المستقبل- قيل: فهذا يبطل قولكم. لأن ما كان واجبا بغيره أزليا لم يقبل العدم لا في الماضي ولا في المستقبل. وكذلك هو عندكم ما كان أزليا كان أبديا يمتنع عندكم عدمه.

وإن قيل: نريد به أن ما تصور في الذهن يمكن وجوده في الخارج، ويمكن أن لا يوجد.

قيل: إذا كان أزليا واجبا بغيره لم يمكن أن يقبل العدم بحال، فلا يكون ممكنا، فالممكن لا يكون ممكنا إن لم يكن معدوما في الماضي أو المستقبل.

التالي السابق


الخدمات العلمية