الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الخامس: أن ما ذكروه من التفريق بين السلب والإيجاب، والعدم والملكة، بتسمية هذا ميتا دون هذا، اصطلاح لهم لا يجب اتباعه، والله قد سمى الجماد مواتا في مثل قوله تعالى: والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء [سورة النحل: 20-21] وفي قوله تعالى: وآية لهم الأرض الميتة [سورة يس: 33] وأمثال ذلك.

[ ص: 369 ] فإذا كان قد علم أنه لا بد من موجود بنفسه مختص بخصائص لا يشركه فيها غيره، ولا يحتاج فيها إلى مباين له، كان توهم المتوهم أن كل مختص فلا بد له من مخصص مباين له، توهما باطلا شيطانيا، وهو من جنس ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما قال: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته».

وفي حديث آخر: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟».

وهذا لكون الوسواس الشيطاني الباطل لا يقف عند حد الموجود الواجب القديم الخالق. وهذا المقام ضل فيه طوائف من الناس صاروا ينفون ما يجب إثباته لله تعالى من الصفات لعدم علمهم بما يوجب اختصاصه بذلك.

ثم إنهم يتناقضون، فالمعتزلة فرقوا بين كونه عالما وقادرا، وكونه متكلما مريدا، بأن العلم عام التعلق، فإنه سبحانه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، والكلام خاص، فإنه يتكلم بشيء دون شيء، فإنه لا يتكلم إلا بالصدق، والإرادة خاصة، فإنه يريد شيئا دون شيء، لا يريد إلا ما علم أن سيكون.

فقال لهم الناس: هب أن الأمر كذلك، لكن ما الموجب للتكلم ببعض الكلام دون بعض، ولإرادة بعض الأمور دون بعض؟ فلا بد [ ص: 370 ] من سبب يوجب التخصيص، فلا بد حينئذ أن يكون هو المخصص. فقالوا: القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مخصص.

فيقال لهم: هذا مع بطلانه يوجب تناقضكم، فإنكم قلتم: لا بد للتخصيص من مخصص، ثم قلتم :كل الممكنات مخصصة، ووجدت بدون مخصص، بل رجح المرجح أحد المتماثلين على الآخر من غير مخصص، وإذا جوزتم في الممكنات وجود المخصصات بدون مخصص، مع أن نسبة القادر إليها نسبة واحدة، فالموجود بنفسه أولى أن يستغني عن مخصص مما اختص به من ذاته وصفاته، وذلك أنه من المعلوم أن وجود ذاته وصفاته أولى من وجود مفعولاته، وإذا جوزتم أن يكون مخصصا لمفعولاته المختصة بحقيقة وقدر وصفة بلا مخصص أصلا، فتجويزكم أن تكون ذاته المختصة الواجبة بنفسها لا تفتقر إلى مخصص بطريق الأولى.

وهذا لا ينعكس، فإنه إذا قيل: إن أفعاله تفتقر إلى مخصص، لم يلزم أن تكون ذاته مفتقرة إلى مخصص، فإن ذاته واجبة الوجود بنفسها، فهي لا تفتقر إلى سبب أصلا، بخلاف مفعولاته، فإنها مفتقرة إلى سبب، وما افتقر إلى فاعل جاز أن يقال: هو مفتقر إلى مخصص، بخلاف ما لا يفتقر إلى فاعل، فإنه لا يجب أن يفتقر إلى مخصص.

التالي السابق


الخدمات العلمية