الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المجلس الخامس والأربعون

لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به

حدثنا سعيد بن محمد بن أحمد أبو عثمان البزاز ، أخو الزبير الحافظ ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا محمد بن أبي حفصة ، قال : حدثنا ابن شهاب ، عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما مسيء فيستعتب ، وإما محسن فيزداد " .  

وحدثنا سعيد بن محمد ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا الربيع بن صبيح ، قال : أخبرنا حبيب بن فضالة أن أبا هريرة ذكر الموت وكأنه تمناه ، فقال بعض أصحابه : وكيف تمنى الموت بعض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لأحد أن يتمنى الموت لا بارا ولا فاجرا ، أما بار فيزداد ، وأما فاجر فيستعتب " ، قال : وكيف لا أتمنى الموت وأنا أخاف أن تدركني فتنة الدهماء ، وبيع الحكم ، وتقاطع الأرحام ، وكثرة الشرط ، ونشء يتخذون القرآن مزامير " .

قال القاضي : قد ورد هذا الخبر بالنهي عن تمني الموت لما بين فيه من المعنى ، وجاء في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علماء السلف أخبار منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد فاعلا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي " .

وروي عن ابن عباس أنه قال : ما أحد إلا والموت خير له من بر ولا فاجر ، إن كان برا فقد قال الله عز وجل : وما عند الله خير للأبرار وإن كان فاجرا فقد قال الله تعالى : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما .

قال القاضي : وهذا الخبر عن ابن عباس خارج على معنى يواطئ ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قدمنا روايته ، ولا ينافيه إذا حمل على الوجه الصحيح في المعنى .

ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت عند الضرر ونزوله ، ووقع البلاء وحلوله ، وأرشد إلى استقبال التوبة من الإساءة والوزر ، والازدياد من فعل الخير وأعمال البر ، وأن [ ص: 334 ] يستعتب المرء من فرطاته ، ويستكثر من طاعاته ، فأما إذا توفاه الله جل جلاله من غير تمن منه للموت ، وهو على غير علم منه بحاله فيه ، ولا متيقن أن إماتته خير له من تبقيه ، فإن حاله في هذا مخالفة للمعنى الآخر الذي قدمنا بيانه ، ولكل وجه من هذين المعنيين حكم جار على طريقته ، ومختص بحقيقته ، وقد كان أعلام السلف الأخيار ، وصلحاؤهم الأبرار ، يرغبون إلى الله تعالى في الشهادة في سبيله ويحرصون عليها ويتعرضون لها ويأسون على فوتها ، ويغبطون من رزقها ، وأكرم بها لظهور فضلها وشرف أهلها ، وهذا يوضح عن إجراء كل جهة من هذه الجهات على حكمها ، وإنزالها منزلتها ، وأن ما ذكره أبو هريرة من فتنة الدهماء وبيع الحكم وتقاطع الأرحام وكثرة الشرط ونشء يتخذون القرآن مزامير ، فقد رأينا جميع ما تخوفه ، وأدركنا ما خاف أن يدركه ، فإلى الله عز وجل نجأر بالشكوى ، وإياه نستعين على كل بلوى .

فأما قوله : فتنة الدهماء ، فإنه أضاف الفتنة إلى الدهماء ، وللنحويين في هذا مذهبان : منهم من يجعل الفتنة مضافة إلى الدهماء ويجيز إضافة الشيء إلى نفسه ويجري هذا في أشياء كثيرة : لحق اليقين ، ودار الآخرة ، مسجد الجامع ، وصلاة الأولى .

وكثير من محققيهم ينكر هذا المذهب ، ويخالف هؤلاء في تأويل هذه الكلمات ، وما أتي من نظائرها ، ويحمل حق اليقين على معنى حق العلم اليقين ، والأمر اليقين على إقامة الصفة مقام الموصوف ، ويقول : معنى دار الآخرة أي دار المنزلة الآخرة أو النشأة والمذمة ، ومعنى مسجد الجامع : الوقت الجامع ، أو الفرض الجامع ، وصلاة الأولى صلاة المكتوبة الأولى ، ونحو هذا الوجه من التأويل الصحيح في المعنى الجاري على القياس .

فأما الدهماء في هذا الخبر ففيه وجهان في التأويل ، أحدهما صفة الفتنة أو ما أضيفت إليه بالدهمة والسواد والظلمة ، وقد قال عبد الله بن المبارك في خبر ضمن شعرا له :


فنحن في فتنة عشواء مظلمة نستغفر الله من أهوال ما فيها

والوجه الآخر : غشيان الفتنة وهجومها وتراكمها وعمومها ، من قولهم دهمت القوم الخيل تدهمهم .

وقوله : نشء يتخذون القرآن مزامير ، فإنه عنى به من حدث ونشأ من الأشرار بعد من مضى من البررة الأخيار ، قال نصيب :


ولولا أن يقال صبا نصيب     لقلت : بنفسي النشء الصغار

وهؤلاء الذين عنوا بهذا الخبر هم الذين يرددون القرآن لبطونهم بالألحان غير خاشعين ولا متعظين ولا معتبرين ولا متفهمين ، وأمر هذا النشء في زماننا فاش ، فهم من أشد الناس فتنة ، وأعظمهم على أهل الدين بلية ، فقد جعلوا اجتماعهم على تلاوة القرآن بمنكر الألحان ، ومزامير الشيطان ، وعلى تهم القيان وملاهيهم من المعازف والعيدان ، والزيادة [ ص: 335 ] في كتاب الله تعالى ما ليس منه بالإيقاع والأوزان ، وحصل خواص أهل العلم والإيمان بمنزلة إقصاء وهوان ، ومن عداهم من حليف فتنة وأسير قينة ، وأكثر من تراه في وقتنا ممن أومئ إليه ، إما واهي العزيمة ضعيف العقدة ، قد تأول المحكم غير تأويله ، وتشبث بجملة المتشابه لعجزه عن معرفة تفصيله ، وإما ماجن خليع أو مغرور مخدوع قد استفزه الغار له بجرأته وجسارته ، واستنزله الماكر به فورطه في خسارته ، فأوهمه أن الذي دعاه إليه ، وحمله عليه ، من أعمال البر ، والقرب الكابسة للأجر ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا بما ذكره من التغني بالقرآن ، وتحسين التلاوة بالترنم والألحان ، والذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم عندنا ، قراءة القرآن بالتحسين والخشوع وتحقيقه وترتيله ، وتبيينه وتفصيله ، وتحسين الصوت به من غير إحداث زيادة في أضعافه بالزمزمة والنقرات ، والهمهمة والنبزات .  

التالي السابق


الخدمات العلمية