الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

253 - أخبرنا أحمد بن علي المقري ، أنا هبة الله بن الحسين ، أنا علي بن عمر بن إبراهيم ، أنا إسماعيل بن محمد ، نا عباس بن محمد ، نا محمد بن بشر ، نا عبيد الله بن عمر ، عن يونس ، عن الحسن قال: جاء أعرابي إلى عمر -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين، علمني الدين. قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وعليك بالعلانية، وإياك والسر، وكل ما يستحيا منه، فإنك إن لقيت الله فقل: أمرني بهذا عمر   .

قال: وأخبرنا هبة الله بن الحسن ، أنا محمد بن جعفر النحوي ، أنا عبيد الله بن ثابت الحريري ، نا أحمد بن منصور ، نا أبو صالح ، نا معاوية (بن صالح) ، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله تعالى: الله نور السماوات والأرض   . يقول: الله –سبحانه- هادي أهل السماء وأهل الأرض، فمثل هداه في قلب المؤمن كمثل الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءا (على ضوء) ، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل فيه [ ص: 416 ] الهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى، ونورا على نور، كما قال إبراهيم -عليه السلام- قبل أن تجيئه المعرفة: هذا ربي، حين رأى الكوكب من قبل أن يخبره أحد أن له ربا، فلما أخبره الله أنه ربه ازداد هدى على هدى.

قال: أبو عبد الله الزبيري الفقيه : اختلف الناس في الإسلام والإيمان  فقال بعضهم: هما اسمان بمعنى واحد؛ فالمسلم مؤمن، والمؤمن مسلم. وقال آخرون: الإسلام هو المنزلة الأولى والإيمان أعلى منها، والإسلام عندهم هو الإقرار باللسان، والإيمان عندهم التصديق بالقلب.

[ ص: 417 ] ومن حجة هذه الطائفة أن قالوا: قال الله -عز وجل-: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . قالوا: استدللنا على أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأن الإسلام هو القول باللسان.  

وقال آخرون: الإيمان هو أن تؤمن بالله -عز وجل- وبرسله وبكتبه، وبالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وبالبعث بعد الموت والجنة والنار وأنهما مخلوقتان، والإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والجهاد في سبيل الله -عز وجل-.  

وروت هذه الطائفة الخبر، أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله ما الإسلام؟ فقال: ما ذكرناه. وسأله، ما الإيمان؟ فقال: ما وصفنا.

وقال قائلون: الإسلام هو أن يقول المرء إما طائعا وإما كارها، فإن كان طائعا فاعتقد قلبه ما أقر بلسانه، فقد كمل إيمانه، وإن لم يصدق القلب قوله باللسان، فليس إقراره بشيء في الباطن، ولكنه يحقن قوله دمه في الظاهر   .

واحتج قائل هذه المقالة بقول الله -عز وجل-: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون لما قالوا بألسنتهم قولا لم تعتقده قلوبهم شهد الله بتكذيبهم، ثم قال: اتخذوا أيمانهم جنة ، [ ص: 418 ] يقول: مانعة من القتل اجتنوا بها وتحصنوا، فحقنوا دماءهم، فأخبر أن ذلك ينجيهم من القتل.

وقد أخبر الله -عز وجل- عن باطن أمورهم، ووصفهم بما يدل على ظاهرهم فقال: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة فوصفهم من قلة الفهم وضعف العقل بما لا غاية وراءه.

قالوا: فإنما يكمل الإيمان بتصديق القلب، فإنهم لما أقروا بألسنتهم ولم تعتقد عليه قلوبهم، لم يكن نافعا لهم، ومع هذا يراعي الأعمال بأوقاتها، فيقيم الصلاة في وقت وجوبها، ويؤتي الزكاة في وقت حلولها، ويؤدي كل شريعة في وقت وجوبها، فإذا استقام إقراره بلسانه وتم تصديقه بقلبه، واعتقد الإيمان بالأعمال، ثم رعى أوقاتها فقام بأدائها فقد كمل له الإيمان، فإن نقص من هذا شيء نقص إيمانه بقدر ما نقص من ذلك، فإن زاد مع الشرائع المفروضة فضائل من نوافل الخير زاد إيمانه، فوصفوا الإيمان بشيء يكمل بأدائه وينقص بنقصانه، ويزيد بما يأتي من نوافل الخير وأعماله. قال الله -عز وجل-: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى .

وقالت طائفة: الإيمان قول بلا عمل، لا يزيد ولا ينقص،  وإن [ ص: 419 ] من آمن وأصلح، وعدل وأحسن، وعامل وأنصف، وقال فصدق، ووعد فوفى، وظلم فعفا، وفعل نوافل الخير وأعمال البر، وأدى ما يجب عليه من حق والديه وحق ولده وحق ذي رحمه وحق جاره وحق صديقه، وقام بالخير كله فيما قدر عليه، وإن من قال: لا إله إلا الله قولا باللسان، ثم تخلف عن إقامة الفرائض، وقصر في القيام بالشرائع، وتخلف عن الإتيان بأعمال الخير والنوافل، وائتمن فخان، وقال فكذب، ووعد فأخلف، وجار وظلم، إن هذين جميعا في درجة واحدة لا فضل لهذا على هذا، ولا لهذا على هذا، فهذا قول يشهد العقل على إغفال قائله.

ومما يدل على خلاف هذا القول من الكتاب والسنة قول الله -عز وجل-: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون . ففرق الله بين أصحاب السيئات وبين أصحاب الأعمال الصالحات أولا في الحياة، ثم في الممات. قال الله -عز وجل-: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة يطيب له العيش في حياته، وأخبر -عز وجل- أنه يجزى بأحسن عمله في عاقبته بعد مماته.

التالي السابق


الخدمات العلمية