الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال لنا الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه [ ص: 116 ] الله: قالوا: جعلتم أصل الدين هو الاتباع ، ورددتم على من يرجع إلى المعقول، ويطلب الدين من قبله، وهذا خلاف الكتاب؟ لأن الله ذم التقليد في القرآن، وندب الناس إلى النظر والاستدلال، والرجوع إلى الاعتبار ، وإنما ورد السمع مؤيدا لما يدل عليه العقل ، ومن تدبر القرآن ونظر في معانيه وجد تصديق ما قلناه.

والجواب:

قد دللنا فيما سبق أن الدين هو الاتباع، وذكرنا في بيانه ودلائله ما يجد به المؤمن شفاء الصدر، وطمأنينة القلب بحمد الله ومنه.

وأما لفظ التقليد فلا نعرفه جاء في شيء من الأحاديث، وأقوال السلف فيما يرجع إلى الدين، وإنما ورد الكتاب والسنة بالاتباع.

وقد قالوا: إن التقليد إنما هو: قبول قول الغير من غير حجة. وأهل السنة إنما تبعوا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله: نفس الحجة. فكيف يكون هذا قبول قول الغير من غير حجة، فإن المسلمين لهم الدلائل السمعية على نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما نقل إلينا أهل الإتقان والثقات من الرواة ما لا يعد كثرة من المعجزات، والبراهين، والدلالات التي ظهرت [ ص: 117 ] عليه، وقد نقلها أصحاب الحديث في كتبهم ودونوها. فلما صحت عندهم نبوته، ووجدوا صدقه في قلوبهم وجب عليهم تصديقه فيما أنبأهم من الغيوب، ودعاهم إليه من وحدانية الله، وإثبات صفاته، وسائر شرائط الإسلام، وعلى أنا لا ننكر النظر قدر ما ورد به الكتاب والسنة، لينال المؤمن بذلك زيادة اليقين، وثلج الصدر، وإنما أنكرنا طريقة أهل الكلام على ما أسسوا فإنهم قالوا:

أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري، وهذا [ ص: 118 ] قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف، وأئمة الدين، ولو أنك تدبرت جميع أقوالهم وكتبهم لم تجد هذا في شيء منها، لا منقولا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا من الصحابة - رضي الله عنه -، وكذلك من التابعين بعدهم.

وكيف يجوز أن يخفى عليهم أول الفرائض وهم صدور هذه الأمة، والسفراء بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟

ولئن جاز أن يخفى الفرض الأول على الصحابة والتابعين، حتى لم يبينوا لأحد من هذه الأمة مع شدة اهتمامهم بأمر الدين، وكمال عنايتهم حتى استخرجه هؤلاء بلطيف فطنتهم في زعمهم. فلعله خفي عليهم فرائض أخر.

ولئن كان هذا جائزا فلقد ذهب الدين واندرس؛ لأنا إنما نبني أقوالنا على أقوالهم، فإذا ذهب الأصل فكيف يمكن البناء عليه؟ نعوذ بالله من قول يؤدي إلى هذه المقالة التي تؤدي إلى الانسلاخ من الدين، وتضليل الأئمة الماضين. هذا وقد تواترت الأخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو الكفار إلى الإسلام والشهادتين .

[ ص: 119 ] 68 - قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ".  

69 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ".  

ومثل هذا كثير، ولم يرو أنه دعاهم إلى النظر والاستدلال، وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أنه يدعى إلى الإسلام، فإن أبى وسأل النظرة والإمهال لا يجاب إلى ذلك، ولكنه: إما أن يسلم أو يعطي الجزية، أو يقتل. وفي المرتد: إما أن يسلم أو يقتل. وفي مشركي العرب على ما عرف.

وإذا جعلنا الأمر على ما قاله أهل الكلام، لم يكن الأمر على هذا الوجه، ولكن ينبغي أن يقال له: - يعني الكافر - عليك النظر والاستدلال لتعرف الصانع بهذا الطريق، ثم تعرف الصفات بدلائلها وطرقها. ثم مسائل كثيرة إلى أن يصل الأمر إلى النبوات، ولا يجوز على طريقهم الإقدام على هذا الكافر بالقتل والسبي إلا بعد أن يذكر له هذا ويمهل؛ لأن النظر والاستدلال لا يكون إلا بمهلة، خصوصا إذا طلب الكافر ذلك، وربما لا يتفق النظر والاستدلال في مدة يسيرة، فيحتاج إلى إمهال الكفار مدة طويلة تأتي على سنين، ليتمكنوا من النظر على التمام والكمال. وهذا خلاف إجماع المسلمين.

[ ص: 120 ] وقد حكي عن أبي العباس بن سريج أنه قال: لو أن رجلا جاءنا وقال: إن الأديان كثيرة فخلوني أنظر في الأديان فما وجدت الحق فيه قبلته، وما لم أجد فيه تركته، لن نخليه، وكلفناه الإجابة إلى الإسلام وإلا أوجبنا عليه القتل.

وقد جعل أهل الكلام من تخلف عن الإسلام ناظرا فيه وفي غيره من الأديان مقيما على الطاعة ، محمودا في فعله، وهذا جهل عظيم في الإسلام؛ فينبغي على قولهم: إذا مات في مدة النظر والمهلة، قبل قبول الإسلام أنه مات مطيعا لله تعالى مقيما على أمره لا بد من إدخاله الجنة، كما يدخل المسلمون. فقد جعلوا غير المسلم مطيعا لله تعالى مؤتمرا بأمره محمودا في فعله، وأوجبوا إدخاله الجنة. وقد قال الله سبحانه وتعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

70 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ".  وهذا حديث ثابت لا شك فيه.

ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن الدين طريقه الاتباع،  أنا [ ص: 121 ] إذا سلكنا طريق الإنصاف، وطرحنا المكابرات من جانب فلا بد من الانقياد لما قلناه، لأن المقصود في الابتداء إذا كان هو إصابة الحق: فليتدبر المرء الحق: فليتدبر المرء المسلم المسترشد أحوال هؤلاء الناظرين كيف تحيروا في نظرهم، وارتكسوا فيه، فلئن نجا واحد بنظره فقد هلك الألوف من الناس، وإلى أن يبصر واحد فواحد بنظره طريق الحق بنظر رحمة سبق من الله له فقد ارتطم بطريق الكفر والضلالات والبدع بنظرهم أضعاف أضعاف عدد الأولين. وهل كانت الزندقة والإلحاد وسائر أنواع الكفر، والضلالات والبدع منشؤها وابتداؤها إلا من النظر؟ فلو أنهم أعرضوا عن ذلك، وسلكوا طريق الاتباع ما أداهم إلى شيء منها. فما من هالك في العالم؟ إلا وبدو هلاكه من النظر، وما من ناج في الدين سالك سبيل الحق إلا وبدو نجاته من حسن الاتباع، أفيستجيز مسلم أن يدعو الخلق إلى مثل هذا الطريق المظلم، ويجعله سبيل منجاتهم؟ وكيف يستجيز ذو لب وبصيرة أن يسلك مثل هذا الطريق، وأنى له الأمان من هذه المهالك؟ وكيف له المنجاة من أودية الكفر وعامتها، بل جميعها إنما يهبط عليها من هذه المرقاة؟ - أعني طلب الحق من النظر - ولو أعطى الخصم النصفة لا يجد بدا من الإقرار أن من كان غوره في النظر أكثر كانت حيرته في الدين أشد وأعظم .

وهل رأى أحد متكلما أداه نظره وكلامه إلى تقوى في الدين، أو ورع في المعاملات، أو سداد في الطريقة، أو زهد في الدنيا، أو إمساك عن حرام وشبهه، أو خشوع في عبادة، أو ازدياد من طاعة إلا الشاذ النادر. قل: لو قلبت القصة كنت صادقا تراهم أبدا منهمكين في [ ص: 122 ] كل فاحشة ، ملتبسين بكل قاذورة لا يرعوون عن قبيح، ولا يرتدعون من باطل إلا من عصمه الله. فلئن دلهم النظر اليقين وحقيقة التوحيد، فليس ثمرة اليقين هذا وتعسا لتوحيد أداهم إلى مثل هذه الأشياء، وأوردهم هذه المتالف في الدين، ومن الله التوفيق وحسن المعونة.

التالي السابق


الخدمات العلمية