الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الرابع : أن الإظهار إقامة لسنة الشكر وقد قال تعالى : وأما بنعمة ربك فحدث والكتمان كفران النعمة ، وقد ذم الله عز وجل من كتم ما أتاه الله عز وجل وقرنه بالبخل فقال تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وقال صلى الله عليه وسلم : إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن ترى نعمته عليه وأعطى رجل بعض الصالحين شيئا في السر فرفع به يده وقال : هذا من الدنيا والعلانية فيها أفضل ، والسر في أمور الآخرة أفضل ولذلك قال بعضهم : إذا أعطيت في الملأ فخذ ثم اردد في السر والشكر فيه محثوث عليه .

قال صلى الله عليه وسلم : من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل والشكر قائم مقام المكافأة ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : من أسدى إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تستطيعوا فأثنوا عليه به خيرا ، وادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه ولما قال المهاجرون في الشكر : يا رسول الله ، ما رأينا خيرا من قوم نزلنا عندهم قاسمونا الأموال حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كله ، فقال صلى الله عليه وسلم كل ما : شكرتم لهم وأثنيتم عليهم به فهو مكافأة .

؛ : فالآن إذا عرفت هذه المعاني ، فاعلم أن ما نقل من اختلاف الناس فيه ليس اختلافا في المسألة بل هو اختلاف حال فكشف الغطاء في هذا أنا لا نحكم حكما بتا بأن الإخفاء أفضل في كل حال أو الإظهار أفضل بل يختلف ذلك باختلاف النيات ، وتختلف النيات باختلاف الأحوال والأشخاص فينبغي أن يكون المخلص مراقبا لنفسه حتى لا يتدلى بحبل الغرور ولا ينخدع بتلبيس الطبع ومكر الشيطان ، والمكر والخداع أغلب في معاني الإخفاء منه في الإظهار ، مع أن له دخلا في كل واحد منهما .

التالي السابق


(الرابع: أن الإظهار) فيه (إقامة لسنة الشكر) والإظهار نعمة (وقد قال تعالى: وأما بنعمة ربك فحدث ) ومعنى تحديث النعمة إفشاؤها، (والكتمان كفران النعمة، وقد ذم الله عز وجل من كتم ما أتاه الله من فضله وقرنه بالبخل) ، والبخل باب كبير في الدنيا، (وقال الذين يبخلون) بالأموال التي جعلهم الله مستخلفين فيها ( ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ) [ ص: 180 ] يدل ذلك على أن البخل والكتم كلاهما من باب واحد في الذم، وقال صاحب القوت: وقال بعض علمائنا -يعني به سهلا التستري-: إظهار العطاء من الأخذ آخرة وكتمانه دنيا، وإظهار الأعمال من الدنيا وكتمها آخرة. قال: وكان هذا يكره الإظهار. اهـ .

(وقال صلى الله عليه وسلم: إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن ترى عليه) .

قال العراقي: رواه أحمد من حديث عمران بن حصين بسند صحيح وحسنه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. اهـ .

(وأعطى رجل بعض العارفين شيئا في السر فرفع به يده) علانية، (وقال: هذا من الدنيا والعلانية فيها) أي: في أمورها (أفضل، والسر في أمور الآخرة أفضل) . نقله صاحب القوت؛ (ولذا قال بعضهم:) أي: من العارفين (إذا أعطيت في الملأ فخذ) وأظهر الأخذ؛ فإنها نعمة من الله، إظهارها أفضل، (ثم اردد في السر) وأخف ذلك، فإنه عمل من أعمالك، وإسراره أفضل، قال صاحب القوت بعد ما نقله: وهذا لعمري قول فصل، وهو طريق العارفين، ورجحه المصنف فيما بعد كما سيأتي في آخر الفصل، (والشكر) على النعمة (مستحب) ، وفي بعض النسخ: محبوب، أي: أحبه الله عز وجل لنفسه، وهو خلق من أخلاق الربوبية، وفي بعض النسخ: محثوث عليه؛ (قال صلى الله عليه وسلم: من لم يشكر الناس لم يشكر الله) تقدم قريبا، (والشكر قائم مقام المكافأة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تستطيعوا فأثنوا عليه به خيرا، وادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه) تقدم قريبا، (و) كذلك (لما قالت المهاجرون في الشكر: يا رسول الله، ما رأينا خيرا من قوم نزلنا عندهم) وفي نسخة: عليهم، يعني الأنصار، (قاسمونا الأموال حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كله، فقال صلى الله عليه وسلم: كلما شكرتم لهم وأثنيتم عليهم به؛ أي: ذلك هو المكافأة) هكذا أورده صاحب القوت، قال العراقي: رواه الترمذي وصححه من حديث أنس، ورواه مختصرا أبو داود والنسائي في اليوم والليلة، والحاكم وصححه. اهـ .

قال صاحب القوت: وهذا هو الأقرب إلى قلوب الموحدين من العارفين؛ لأنه مقتضى حالهم وموجب مشاهدتهم؛ لاستواء ظروف الأيدي عندهم من العبيد، ونفاذ بصرهم إلى المعطي الأول، فاستوت علانيتهم وسرهم في الأخذ من يده، (فالآن إذا عرفت هذه المعاني، فاعلم أن ما نقل من اختلاف الناس فيه ليس اختلافا في المسألة بل هو اختلاف حال وكشف الغطاء في هذا) ، ونبين ما هو الحق هو (أن لا نحكم حكما باتا) أي: قاطعا (بأن الإخفاء أفضل في كل حال) أي: مطلقا، (أو) أن (الإظهار أفضل) مطلقا، (بل) نقول: إنه (يختلف ذلك باختلاف النيات، وتختلف النيات باختلاف الأحوال والأشخاص) ، والخلق مبتلى بعضه ببعض، وفرض كل عبد القيام بحكم حاله ليفضل بحاله ويسلم بقيامه، (فينبغي أن يكون المخلص مراقبا لنفسه) ، قائما بحكم حاله (حتى لا يتدلى بحبل الغرور) أي: لا ينزل مستمسكا بحبل الخداع، وهو كناية عن الانخداع، ومنه قول الشاعر:


وإن الذي دنياه أكبر همه لمستمسك منها بحبل غرور

(ولا ينخدع بتلبيس الطبع ومكر الشيطان، والمكر والخداع أغلب) وأقوى (في معاني الإخفاء منه في الإظهار، مع أن له مدخلا في كل واحد منهما) أي: من الإخفاء والإظهار .




الخدمات العلمية